اخبار فلسطيناهم الاخبارتقارير التاج

غريبٌ في سماءِ غزة.. هكذا هي إنزالاتُ النسور (قصةٌ خبرية)

التاج الإخباري – حنين زبيده

بين أشلاء جُثثِ شهداءٍ مُتناثرة.. وحُطامِ منازلٍ دُفنت الأحلامُ والآمالُ والحاضرُ والمُستقبلُ تحتَ رُكامها.. وبينَ الحُطام والأعشاب المتيبسة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع.. وبطونِ أطفالٍ خاويةٍ كفراخِ الطيور التي تستبق وصول أمهاتها لتفتح افواهها تريد ما يُقيتُها لتُسد رمق جوعها، يُسارعُ نسور سلاح الجو بالتحليقِ فوق سماءِ غزة لاغاثةِ الملهوفين صغاراً وشباباً وشيوخ .

مشاعرٌ مختلطة،تحدياتُ الطريق، خوفٌ وفخر، وعائلات بأكملها ينتظرون الطائرات الأردنية لتُهل عليهم.. يُحلقونَّ الأبطال الأشاوس حاملينَّ أرواحهُم على أكفهم ويتلفظون الشهادةَ في كُل إقلاع ويكررون الحمد بعد كُل إنزال.

وبعد أكثر من 200 إنزالٍ جوي أُردني ومشترك مع عددٍ من الدول الصديقة والشقيقة، خلال أكثر من 200 يوم من الحرب المُستعرة على القطاع، عيونهم كانت تروي الكثير قبل أفواههم، ادرجو شهاداتهم خلال الإنزالات السابقة، وقال أحد نسور سلاح الجو، أثناء تبادُله أطراف الحديث مع “التاج”، والغصة تتربع أوساط قلبه إن أصعب الانزالات التي شاركوا بها هي الانزالات الأولى والتي كانت تتم عن إرتفاع يتجاوز الـ 17 ألف قدم .

وتابع والفخر يزين جبينه المنهك بعد أن حمد ربه  بأنهم في الانزالات الأولى كانوا يحتاجون إلى “تبخيرة” وجهاز أُكسجين في الطائرات حتى تتم المهمة دون اصابات أو فقد، مُشيراً إلى أن الانزالات تتم الآن عن إرتفاع يتراوح بين الـ 5 – 10 آلاف قدم فالفرق كبير والخطر أكبر .

في خفايا وكواليس الانزال، مشاهدٌ ومشاعرٌ مُختلطة، فبين توترٍ ومراقبةٍ وتحدٍ وسعيٍّ وحزنٍ ونشوةِ الانجاز لا يستطيعُ المرءُ فهم حقيقة الشعورِ وحقيقةِ ما يُدركهُ العقل من زينةٍ وضعتها بعض الأجندة ويضحدهُ المشهدُ بما تبصرهُ العين من ترعٍ للحقيقة . 

هُنا في المقصورةِ التي تحوي الكثير من المساعدات وتحمل على متنها نحو  20 شخصاً، من مختلف بقاعِ المملكة، ومنهم من هو أجنبي، اختلفت مهننا واختلفت عقائدنا، لكننا اتحدنا على امرين، أحدهما حُبُ الضفتين وغايتنا في إغاثة الملهوف .

رغم الضوضاء العارمة داخل مقصورة الطائرة، الا ان الهدوء والسكينة ترافق الجميع، فجميع من هنا وحدو القول والشعور، فالكل يشعر بالثقة اللامتناهية بالله والطمأنينة والكل يُدرك أنه يُحلقُ حاملاً روحهُ بين كفيه.

هُنا إنقطع إتصالُنا بكل شيء.. إلا من ثلاث، اتصالنا الثابت بالله عز وجل، واتصالُنا بالشعورِ مع أشقائنا في القطاع المُحاصر، واتصالنا مع فطرتنا البشرية .

على حين غرة.. صوتٌ من داخلِ المقصورة ينادي”نحنُ الآن فوق فلسطين المحتلة”، وفي تمام الساعة الـ 12:30 تحديداً نحنُ الآن على مشارفِ الوصول إلى غزة هاشم،  مجرد تجاوزنا للبحر سنكون جسداً وروحاً بقرب أشقائنا الذين نُقاسمهم الدم، الصداقة، الشعور والنسب مُنذ مئات السنين، فالأردنيةُ حملت في رحِمها فلسطينيٌ مُناضل والفلسطينيةُ أنجبت نشمياً هاشميّ.  

الكل في المقصورة الان بحالة تأهب، صوتُ الصفير بات يعلو شيئاَ فشيئاَ، الكل يقف على قدمٍ وساق، المشهد خارج نافذةِ الطائرة أضحى ضبابياً لا تستطيعُ رؤية شيءٍ منهُ سوا جناح الطائرة والخيط الأبيض في نهايةِ الأفق، لعله يوحي لرايةِ النصرِ أو لاكفانٍ ظلت عالقة بينَ الأرضِ والسماء لاجسادٍ لم تجد ترف إحتضانِ الكفن، باتت تتأرجحُ بينَّ رحمةٍ من ربها وظلمٍ في أرضها .

ورسالةٌ لخبرٍ عاجل اتى في آخرِ المطاف، ليُعلنَّ أن وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، اليوم الخميس، اشارت الى ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 34305 شهيد و77293 إصابة في اليوم 202 من الحرب على القطاع.

صوت نبضات القلوب بدأ يعلو والتوتر بات حاضراً في المشهد لدى المشاركين في الانزال، الا ان نسور سلاح الجو كما اخذو على عاتقهم التحليق لاغاثة الملهوف دون مقابل، اخذو على عاتقهم دون أي تردد او طلبٍ من احد، القضاء على التوتر الذي بدا بالانتشار، وسرد أطراف الحديث والدعابات، للتخفيف من هول المشهد وعلى الرغم من ذلك لا يزال صوت الصفير يسيطر على المشهد.

تحرك النسور وربطو المساعداتِ بحبل الإنزال وتاكدو من إحكامها خشيةً على حياة الملهوفين، الجميع يراقب الجميع وينظر الى أدق أدق التفاصيل، 10 دقائق تفصلنا عن غزة.. بدأ النسور تحركهم وصار الهدوء يطغى في المكان الكل في مكانه الكل في أتم الاستعداد، تفصلنا عن أرضِ غزة 5000 آلاف قدم الآن .

الجميع يراقب، هم فعلاً كما أُطلق عليهم “نسور سلاح الجو”، فاعينهم بالمراقبةِ كالنسور ترصد كل صغيرةٍ قبل الكبيرة.. ملامح الوجوه هنا باتت موحدة، الجميع عاقدٌ حاجبيه، واكاد اجزم، بأن معظم الوجوه في غزة تتأمل السماء الآن، فهم يستشعرون بقرب وصول الطائرات الاردنية، وربما بعضهم ينظر خشيةً من صواريخِ الصهاينة .

مشهد قطعٍ للانفاس.. ما بين فتح باب الطائرة والعبور فوق مدن غزة وإنزال المساعدات للملهوفين في شمال القطاع إلى لحظة إغلاق بابها مرة أخرى، قُطعت الأنفُس وتضاربت المشاعر والبعض منا علقت دمعةٌ فارة في مقل أعينهم.

دقائقٌ مرت وكأنها ساعات ليفهم ويدرك العقل حقيقة المشهد.. لكنها مرت كلمح البصر خلال الإنزال .

هذهِ ليست بقصةٍ من وحي الخيال، هي واقعٌ مريرٌ يعيشه اهالي القطاع المحاصر، وجميعُ ما تم ذكره ليس إلا جُزءاً لا يجزء مما يراه ويعايشه من هو على أرض غزة هاشم .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى