مقالات

عبق التّراث الـموسيقيّ الأردنيّ يفوح في فضاءات العرس الملكيّ

التاج الإخباري – بقلم: د. هبة سامي عباسي

 تعدّ الموسيقى والغناء من أهمّ الفنون وأكثرها تأثيرًا في حياة الإنسان؛ فهما مرآة تتجلّى فيها حضارات الشّعوب، وينعكس فيها التّنوّع الثّقافيّ والتّاريخيّ للمجتمعات. وتمثّل الموسيقى والغناء في الأردنّ حالة نموذجيّة خاصّة ومميّزة بين الدّول العربيّة؛ بسبب جغرافيّة الأردنّ ومناخه من جهة، وتكوينه الاجتماعيّ من جهة أخرى؛ فهو يتوسّط عدّة دول عربيّة، مـمّا يمنح فنّه الموسيقيّ والغنائيّ تنوّعًا وثراء. وضمن هذا التّنوّع ازداد وعي الشّعب الأردنيّ بأهمّيّة تراثه الموسيقيّ والغنائيّ، وظهرت فرق وجمعيّات، تهتمّ بإحياء التّراث الثّقافيّ الموسيقيّ والغنائيّ الأردنيّ.

 وبشكل عامّ؛ فإنّ كلمة تراث تدلّ على كلّ ما يُورّث، بما في ذلك التّراث الشّفهيّ والعمليّ والمكتوب، والعادات والتّقاليد والطّقوس والممارسات الّتي يتمّ نقلها من جيل إلى جيل. والتّراث هو تراكم للعادات والخبرات والتّجارب والفنون والعلوم لدى شعب من الشّعوب، ويشكّل الجزء الأساسيّ من كيانه الإنسانيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ والخُلقيّ والتّاريخيّ.

 ويتّخذ التّراث صورًا وتعبيرات متعدّدة، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين؛ تراث ثابت مدوّن كالتّراث المحفوظ في الكتب والمخطوطات والآثار، وهو ثابت لا يتغيّر إلّا بقدر ما تؤثّر فيه عوامل البيئة الطّبيعيّة؛ وتراث متغيّر شفهيّ، يتمثّل في الفنون الموسيقيّة والتّشكيليّة والتّعبيريّة، ويتمّ تناقله شفاهة أو بالتّقليد، ويرتبط بعادات ومناسبات اجتماعيّة، وهذا النّوع من التّراث معرّض للتّغيير والإضافة والحذف أثناء تناقله؛ لأنّه يعبّر عن قيم الشّعب وفلسفته ومزاجه الفنّيّ بصور متعدّدة، من خلال الموسيقى، والغناء، والرّقص، والأمثال، والحكايات، والرّسوم، وغيرها.

  ويمكن القول إنّ الفنّ الموسيقيّ والغنائيّ الأردنيّ اليوم، ما هو إلّا صورة من صور تجسيد فهمنا لإرثنا الموسيقيّ وإحيائنا له؛ فهو يوضّح صورتنا التّاريخيّة، ويساعدنا على تجسيدها في حياتنا الرّاهنة، من خلال تحويل التّراث إلى جوهر ثقافتنا الموسيقيّة والغنائيّة وبنيتها الصّحيحة.

 وقد ظهر هذا جليًّا وواضحًا في الاحتفالات الرّسميّة الّتي عُقدت بمناسبة زفاف سموّ وليّ العهد الأمير الحسين بن عبد الله على الأميرة رجوة آل سيف، حيث برزت عاداتنا وتقاليدنا وموروثنا الأردنيّ العريق، وتزيّنت ساحات مضارب بني هاشم وقصر زهران وقصر الحسينيّة باللّوحات الموسيقيّة والغنائيّة التّراثيّة المتنوّعة، الّتي شملت فرق الأردنّ التّراثيّة من الشّمال إلى الجنوب، هذه الفرق الّتي نسجت بموسيقاها وغنائها نسيجًا متناغمًا، ربط بين الحاضر والـماضي، وعبّر عن أصالة الشّعب الأردنيّ، وعكس شعوره بالفرح والسّعادة.

وغلب فنّ "السّامر" على هذه الاحتفالات البهيجة، و"السّامر" هو سلسلة من الأنشطة الفنّيّة الّتي تقدّمها العشيرة في الأعراس الأردنيّة عادة. وشارك سموّ وليّ العهد بأداء "الدّحّيّة"، وهي فنّ شعبيّ تراثيّ، منتشر في أعراسنا الأردنيّة، خصوصًا في المناطق الرّيفيّة والبدويّة، ويشترك في أدائه رجال مصطفّون جنبًا إلى جنب، يتمايلون يمينًا ويسارًا على أنغام الأهازيج والأغاني الشّعبيّة. وعادةً ما تكون الدّحّيّة قصيدة شعريّة كاملة من روائع الشّعر الشّعبيّ الأردنيّ.  

وكان لمشاركة فرقنا الأردنيّة التّراثيّة كـ فرقة الرّاجف لإحياء التّراث، وفرقة العقبة للفنون البحريّة (السّمسميّة)، وفرقة كفر جايز، وفرقة الرّمثا، وفرقة معان للفنون الشّعبيّة الّتي قامت بأداء الدّبكة التّسعاويّة، وفرقة الأجاويد للفنون الشّعبيّة والمسرحيّة، وفرقة نايا النسائيّة، وفرقة شباب وشابّات السّلط للفنون الشّعبيّة؛ الأثر العميق في نقل جماليّات التّراث الأردنيّ، وإيصال جاذبيّة الأداء الموسيقيّ، من خلال القوالب الغنائيّة التّراثيّة المختلفة الّتي برعت هذه الفرق في تقديمها.

 ولم يغب عن هذا الحفل المهيب الحضور الشّركسيّ الاستثنائيّ لفرقة نادي الجيل الشّركسيّة، من خلال أداء الرّقصات الشّعبيّة والموسيقى الفلكلوريّة الّتي أضفت على العرس الملكيّ سحرًا خاصًّا.

 أمّا موسيقات قوّاتنا المسلّحة الأردنيّة، ببهاء زيّها، وأناقة تنظيمها، وتناسقها الرّائع، وألحانها العذبة؛ فقد تفوّقت برسم لوحات فنّيّة تراثيّة وطنيّة، نشرتها في فضاءات العرس الوطنيّ الكبير، وطُوِّعت حركات المشاة العسكريّة لتنسجم مع ألحانها الموسيقيّة، متيحةً لنا فرصة فريدة لتذوّق الفرح على إيقاعات الطّبول والنّفخ في القِرب والعزف على النّحاسيّات، حتّى ونحن نتابع هذا العرس المهيب من خلال شاشات العرض التّلفزيونيّة.

ويمكننا تشبيه جميع الفِرق المشاركة بقطع الموزاييك الّتي شكّلت في النّهاية لوحة تراثيّة موسيقيّة فريدة، حملت في طيّاتها تاريخ الأردنّ العريق، وثقافته المتنوّعة، وتراثه الغنيّ، ومثّلت رابطًا مشتركًا للأردنيّين على اختلاف أعمارهم وخلفيّاتهم.  

 وبالنّظر إلى الأهمّيّة الكبيرة لهذا النّوع من الموسيقى والغناء، فإنّه بلا شكّ، جسّد الشّعور بالوحدة الوطنيّة، ودعم القيم والهويّة الأردنيّة، وعزّز الإحساس بالانتماء والتّآخي والتّلاحم بين أفراد مجتمعنا الأردنيّ الحبيب.

 وبما أنّ هذا النّوع من الموسيقى والغناء قد حظي باهتمام جلالة الملك عبدالله الثّاني بن الحسين وجلالة الملكة رانيا العبدالله في حفل الزّفاف الملكيّ الاستثنائيّ، فلا يمكننا إلّا أن نستشفّ ونتأكّد من أنّه لابدّ لنا- نحن الموسيقيّين الأكاديميّين والممارسين أوّلًا، والمجتمع الأردنيّ ثانيًا- من أن نسعى إلى زيادة الاهتمام بتطوير منهاج الموسيقى، ومواكبة المستجدّات التّقنيّة والتّكنولوجيّة بما يخدم موسيقانا، وتفعيل دور الفرق الموسيقيّة التّراثيّة الأردنيّة عبر برامج لإحياء الموروث الأردنيّ، من خلال المهرجانات، والاحتفالات، والوزارات، والمؤسّسات الرّسميّة الّتي تُعنى بالشّأن الثّقافيّ بشكل عامّ؛ وتصميم برامج تدعم وتنشر الثّقافة الموسيقيّة التّراثيّة بين أفراد المجتمع الأردنيّ؛ وزيادة حجم المخصّصات الماليّة للفِرَق الموسيقيّة الأردنيّة، من أجل تحفيزها، وزيادة عطائها، ورفع مستواها المهنيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى