صوبة البواري

التاج الاخباري -حسين العموش -في مثل هذه الأيام، نهاية أيلول تستعد الأسر الاردنية في القرى للشتاء، ليس لان «أيلول» ذنبه مبلول، بل تفاؤلا بقدوم الزائر الذي طال انتظاره.
حين تهب الرياح الغربية وتحمل معها رطوبة في الطقس، كنت اقرأ على وجه ابي رحمه الله ابتسامة ورضى وتفاؤل لم اقرأه قط قبل ذلك.
وحين يبدأ (الندف)، وهو ما تعارف عليه ابناء القرى بداية لنزول المطر، يقف والدي في حوش البيت الطيني، يطيل الوقوف وهو يستبشر بالنظر الى الغرب، حتى تتبلل ثيابه، يقف بفرح غامر، يتلقى جسده النحيل حبات المطر، يمسح وجهه بها، يهلل ويكبر وتعلو وجنتيه ابتسامة الرضا.
متعتي تتجلى في مراقبة ابي وهو يوصل بواري صوبة الكاز بعضها ببعض، وحين يكتمل المشهد بايصال الصوبة باخر بوري، كنت انتشي فرحا بانتظار اشعالها.
صوت طرقات يد ابي على مقدمة البوري وهو يوصله بآخر لا تفارق ذاكرتي، ليس لأن صوت الرنّه المفرغ يمنحني الدفء، لا، بل لأن طقس اعادة تركيب الصوبة كل عام يعني لي دفئا فقدته طيلة الصيف، يعني لي فرشة ولحاف صوفي اتمدد عليهما على مقربة من الصوبة، يعني لي فروة والدي الدافئة التي يلفني بها بأحكام.
الدفء الذي حصلت عليه من بيت طيني يدلف فوق رؤسنا احيانا ليخلق سيفونية جميله يحدثها صوت نقطة المياه الكبيرة المنحدرة من سقف القصيب وهي ترن على ارضية طنجرة التوج لا تعادلها كل سمفونيات موزرت ولا بتهوفن، صوتها (تييك.. تييك.. تييك) بفاصل زمني محكم الرتابة، بعد ان تغمر المياه ارضية الطنجرة يتحول العزف المنفرد على وتر القلب الى صوت (تن..تن..تن) فرحة غامرة تنتابني وانا ارقب وقع الدلف وهبرجة نار الصوبة، فادخل في حالة غامرة من الفرح، وانا استمع لوقع حبات المطر على الشباك الغربي للغرفة الطينية، تحتي فرشة صوف نجدتها يد امي رحمها الله، فوقي فروة ابي، امامي صوبة البواري، بجانبي طنجرة تتلقى بفرح دلفا رتيبا، وجدتي وامي واخواتي نستمع لحديث والدي عن قصيدة احبها وكان يرددها دائما مطلعها:(يا كليب شب النار يا كليب شبه).
اليوم لا بهجة للشتاء، ولا دفء، لا «خبز مقحمش»، لا خبز على الصاج، لا رنة جميلة لدلف انتظرناه طويلا، لا ولا فروة تدفئ روحنا التواقة الى الماضي.
لا دفء للاسرة، ولا جلوس طويل معها، ولا حوار ولا حديث مشترك بين اب وابنه، ولا بين ام وابنتها، رغم كل وسائل الدفء الحديثه بما حملته لنا التكنلوجيا من تقدم الا انني اشعر بالبرد والغربة، لم اعد ذاك الطفل الذي يستسلم للنوم ويد امي تداعب خصلات شعري بحنان، اشعر بالغربة حين انام على فرشة طبية ثمنها يساوي كل اثاث البيت: فرشاته والمنهض واللحاف والحرامات وحصيرة القش الصفراء وخزانة متهالكه ونملية لها ابواب مرتفعة من الزجاج.
اعود الى الوراء نصف قرن، تغير طعم الحياة، لا الخبز خبز ولا البندورة بندورة، ولا التلفزيون بالأبيض والاسود هو التلفزيون، لا رافع شاهين بضحكته الجميلة، ولا غمزة سميرة توفيق، لا صوت لربابة عبده موسى يطربني، ولا سيارة الاسلاك التي يصنعها لي حمودة الخالد تسليني وتذهب عن روحي الضجر.
تغيرنا وتغيرت الحياة، تبدلت حياتنا وانسانيتنا الى كبسات وازرار وتكنولوجيا لا قبل لنا بها، ومرشحة لنزع الانسانية عن حياتنا اكثر واكثر.
أين الجار؟ اين دفء الجيرة؟ اين شعورنا مع اهل الميت حين كانت القرية في حداد لاربعين يوما، ماذا فعلت التكنلوجيا بارواحنا وأحاسيسنا؟.
