مقالات

حداد يكتب: عندما يضع الملك ضمير العالم على المحك

التاج الإخباري – بقلم الاب نبيل حداد/ مدير المركز الاردني لبحوث التعايش الديني

في أيلول من كل عام تنتظر الجمعية العامة للأمم المتحدة كما العالمُ الاستماع لخطاب جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين من على منبرها واضعا النقاط على الحروف.. وضمير العالم على المحكّ. ونُنصت في كلّ مرة مع الوفود المشاركة من ممثّلي المجتمع الدولي الى النطق السامي، وما فيه من طروحاتٍ تحمل الحكمةَ والمشورة،  وحرصاً على الانسانيةِ وخير الشعوب.

في المشهد الأممي لأيلول هذا العام، كما في كلّ عام، كثيرٌ من الملامح الهاشمية. فالملك يعرض الحقائق  دون مواربة. ويشخّص الوضع العالمي ويعرض هموم الشعوب باهتمامٍ نابعٍ من إنسانيته. ويضع اسئلةً أمام صُناع القرار،  ويقدّم الرأي ويقترح حلولاّ  توفر فرصاً جديدة للجميع، من أجل مستقبل مفعم بالكرامة والأمل. فكان هذا الخطاب بحقٍّ، بُوصلةً للعالم يستهدي بها، وشكَّل مفصلاً في تاريخ المنظمة عندما وضع الإرادة الدولية أمام مسؤولياتها  مُذكِّراً  بأن خير الانسانية يقتضي إعادة  قراءة الاشياء.

 من على المنبر الأمميّ يأتي الدرس الهاشمي الى العالم، ليؤكّد أنه لا يمكن تجاهل "ناقوس الخطر الذي يدُقّ من حولنا"، بل على الجميع التّصدّي له. ويعرِض  معاناة العالم من الصراع العسكري بين روسيا واوكرانيا والنيتو ومسائل الأمن الغذائي والبيئة والمناخ واللاجئين وغيرها.  

وفي المشهد إصرارٌ هاشمي حكيم وعنادٌ صادق  يصوّر صلابة مواقفِ عَمّانِنا التي لا تقبل تطبيعاً يدنّس المقدّس: الأرضَ والمكان والانسان. ويطلق الملك الوصيّ صرخته مجدداً بأنه "لا يمكن انكار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني". 

وكما في كلّ الأوقات، تكون حاضرةً في المشهدِ القدسُ وكرامةُ حجارتها وفضائِها وأرواحُ المؤمنين. فمكانة القدس وصمودُ أهلِها وحريتُها وقداستُها لا يدرك كنهها، ولا تَعْظُم إلا في عيون الأنقياء والأتقياء. وتتأكد الوصاية الهاشمية على المقدسات في بيت المقدس، التي آلت إلى جلالة الملك عبدالله الثاني، فكانت صمّام الأمان الذي يحمي المقدسات، ووسيلة وحيدة تحافظ على عروبتها في وجه سلوكات المحتل وإساءاته تجاه مسيحيي القدس ومسلميها.  

فيتوقّف الملك عند القدس أمام الوفود، ليؤكّد  المستقبل غير الواضح  لمدينة السلام الحاملَ للكثير من القلق والأخطار المتنوعة التي تعيشها، ومعها عموم الاراضي المقدسة،  فيما تواجه كل الأجندات السّاعية الى تغيير واقع المدينة واجراءات الاحتلال  الاستفزازية  التي  تؤجج العنف وتغذّي الكراهية. 

في وطننا الرّحب الذي يؤكّد أن الطريقَ إلى السلام يمرّ بالقدس كمدينة مقدسةٍ تشهدُ دعواتِنا وصلواتنا وآمالَنا، تظلّ قدسُنا الارضُ والسماءُ والتاريخُ بوصلةَ كلّ المواقف والقرارات والاجراءات التي تقوم بها عمان الوفيةُ بطبعها، من أجل قدس التوحيد والتاريخ والدم العربي.  

ومن نافذة الحبّ الاردني المطلة على  إيلياء من قمم جلعاد ومؤاب، أرى مهابة الملك الوصيّ الشريف، وأقرأ مساعيه من أجل كلّ الطائعين من محبّي مدينة الصلاة والخلاص، فأُحِبّه  أكثر . 

وكما في كل المواقف، يتضاعف عندنا وفينا، وفاؤنا الأردني وعاطفةُ الحبّ للقدس والإصرارُ على عروبتها، والوقوفُ من خلف قيادتنا الهاشمية، مدافعين عن مساجدنا وكنائسنا. فنثمّن كمسيحيّين مكرمات الوصاية الهاشمية في ترميم المقدسات المسيحية والاسلامية في القدس، والاهتمامَ الملكيّ بالحفاظ عليها، ونقدّر عالياً التبرعات السخيّة لترميم قبر السيد المسيح في كنيسة القيامة وكنيسة الصعود، من منطلق خُلق الهاشميين العرب المسلمين واحترامهم للمقدسات المسيحية. وتتأكد لنا وللعالم كلّ يوم أهمية الدور الذي تحمله الوصاية الهاشمية في الحفاظ على الوجود العربي وحضور المسيحيينَ وأدوارهم التاريخية في القدس، كجزء لا يتجزأُ من تاريخ هذه المنطقة وحاضرِها ومستقبلِها. فلا يمكن أن يتخيل المرء المدينة المقدسة دون أصحابها، خاصةً في ظل الأوضاع التي تهدّد الكنائس والمعابد والمقدسات المسيحية، لتتحول في غياب هذا الوجود المسيحي إلى متاحف. 

هناك ومن على المنبر الاممي يستحضر الملك، إرثا عربيّاً مقدسياً هو عهدةٌ عمريةٌ جاءت ثمرة لأول مؤتمر وئام اسلاميّ مسيحي مقدسي. فيتجدد الالتزام بأخلاقيات العهدة ونهجِها بإصرارٍ من صاحبَ الوصاية وهو يسمّي الأمور بأسمائها  وبشكلٍ لا لُبس فيه.  ويعلن كقائدٍ مسلمٍ التزامَه بالدّفاع عن الحقوق والتراث الأصيل والهوية التاريخية للمسيحيين في القدس الشريف وفي هذا المشرق. فيوقظ جلالتُه الضميرَ العالمي في دعوته المجتمع الدولي الى حماية الحضور المسيحي والدفاع عن حقوق كنائس القدس التي تتعرض للانتهاك والتهديد بسبب ممارسات الاحتلال البغيضة .ويؤكد من جديد على أن المسيحية جزءٌ لا يتجزأ من ماضي منطقتنا والأراضي المقدسة. فهنا وُلدت الدّعوة المسيحية ومن ارضنا الاردنية المباركة وعند النهر المقدس اعتُلنت البشارة المسيحية وظلّت جزءاّ من تاريخٍ امتدّ ألفي سنة، وكانت شريكا في وئام مع الاسلام على مدى أربعة عشرِ قرنا. 

ونقرأ رسالة ملكية اعتدنا عليها من صاحب الجلالة تحمل حرصاً معلَناً صادراً عن مدرسة الفكر الهاشمي، على صونِ هذا الوجود في الحاضر، وتأكيداً على أن حضور اتباع السيد المسيح  جزءٌ  اساسي من مستقبل المنطقة.  وهذا الموقف الثابت المبدئي والواضح والصريح  هو موقف مملكة راسخةٍ غادرَت المئوية الأولى وانتقلت إلى مئويتها الثانية، تبرز أهميته بسبب ما يستشعره جلالته كوصي على المقدسات الاسلامية والمسيحية من خطرٍ يتمثل في تدنيس المكان والاساءة للإنسان، ويعكس في  الوقت ذاته احترامَ القداسة وصونَ الحقوق الشرعية للمسيحيّين والمسلمين وكرامتهم وحريتهم الدينية.

وكإبن للكاثوليكية الشرقية، فأنا أفتخر بأردنيّتي التي أعطتَني انتساباّ لقداسة وطنٍ، منه انطلقت المسيحية، وهو صاحبُ إرثٍ لا يصحّ أن يكون أمراً مفروغاً منه، لأنه ميزة نفخر بها  دوماً، ويجب أن نحافظ عليها ونمنع المساس بها.

فهنا أقدم مجتمعٍ مسيحي وله جذورٌ ضاربة في التاريخ. وشعبنا الأردني يشكّل بمختلف مكوناته  مجتمعا واحدا لا يقبل القسمة، وجميعهم شركاء في بناء بلدهم ومستقبلهم. ونعتز بتراث مسيحي عريق منسجم مع التراث الإسلامي، ونعتز أيضاً بأن الأردن يشكّل نموذجا متميزا في التعايش والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، ونؤمن أن حماية حقوق المسيحيين في مشرقنا واجبٌ وليس فضلاً أو منّةً، فقد كان للمسيحيين العرب دور كبير في بناء مجتمعاتنا العربية، وفي الدفاع عن قضايا أمتنا.  

المسيحيون العرب هم الأقرب إلى فهم الإسلام، وهم الذين أدركوا بحكم وفائهم لأرضهم والدم العربي أنّهم مدعوون مع أخوتهم المسلمين إلى العمل معاً من أجل تعزيز تآخيهم ووحدتهم  والدفاع عن حقوقهم وخير أمتهم  ومواجهة كل خطاب وكل فعل يسيء إلى وئامهم التاريخي.

وفي هذا المقام، نسجّل افتخارنا بالجهود الهاشمية  في مجال التقارب بين أتباع الأديان والدعوة للحوار. فقد كانت رسالة عمّان وثيقة هاشمية كرست توضيح قيم الإسلام المتمثلة بالتسامح والتراحم والاحترام المتبادل، وتوالت بعدها أصوات الاعتدال من حول العالم، لتنضمّ إلى ريادة الجهد الهاشمي جهود التصدي للتطرف.  ثم جاءت رسالة "كلمة سواء بيننا وبينكم"، دعوة إلى التلاقي في حوار صادق وإيجابي حول القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية، خاصة وصيتي حب الله وحب الجار.

بعد محطة الإنجاز الهاشمي المعهود الذي شهدته نيويورك، نعلن نحن بدورِنا أننا سنبقى نقف مع كل الشرفاء والأوفياء،-كما نفعل اليوم وكل يوم ، ومن خلف صاحب العرش وصاحب الخلق والصوت الأصدق، في مساعيه من أجل الحق والعدالة والسلام مع دعاء خالص من القلوب، ومع أجراس كنائسنا، أن يمد في عمره ويحفظه وولي عهده والأسرة الهاشمية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى