مقالات

حرب الهمبورجر

التاج الإخباري – د. مهند العزة

(يجب أن نستعيذ بالله من أي تصرّف يرضي عنا اليهود أو النصارى، لأن معنى أن أتصرّف تصرّفًاً يرضي اليهود أو النصارى؛ أنني بحكم الله اتبعت ملّتهم لأنه قال «ولن ترضَ عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم»، فنعوذ بالله أن نكون منهم محل الرضا، ويجب أن تفرقوا بين «الرضا والتعايش»، لأن التعايش يقتضيك فعل قالب ولكن لا بحب قلب.. إذن الرضا أن تقبل فعل القالب بحب القلب..)

هكذا يفسّر الشيخ الراحل محمد متولّي الشعراوي الآية 120 من سورة البقرة على هديٍ من تفاسير المتقدّمين التي تأخذ بالقاعدة الأصوليّة المعروفة: “العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب”، حيث يؤكّد الشيخ في مقطع مطوّل في تفسير الآية نفسها أنّ: “ظاهر النصّ يوحي أنّ الخطاب موجّه للرسول، إلّا أنّ المراد به الأمة بأسرها”، ليساهم في جعل البغضاء والشكّ والريبة الأزليّة في كلّ من خالفنا الدين؛ أصلاً من أصول العقيدة التي لا تصحّ بدونه، ليغدو كما قال بوضوح: “الرضى عنهم مُخرِجاً من الملّة، أمّا التعايش معهم فيلزمنا منه تحمّلهم دون أن نحبّهم حتى تتغيّر الظروف..”.

في الاتجاه نفسه، يؤكّد الشيخ الكويتي عثمان الخميس في هذا المقطع (أنّ جمهور المفسّرين يذهبون إلى أنّ الخطاب في هذه الآية هو على طريقة “إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة”، فالمقصود بالتحذير من أن ترضى عنه اليهود أو النصارى هو عموم الأمة في ذلك الزمان وما بعده إلى يوم القيامة).

تصرّ جمهرة المفسّرين -المتقدمين منهم والمتأخّرين- على إخراج الآيات التي تتناول موقف “المنافقين والكافرين وأهل الكتاب” من المسلمين؛ عن سياقها لتنسحب أحكامها على ما وراءه وما بعده، الأمر الذي يثور معه تساؤل جوهريّ حول جدوى الحديث عن “حوار الأديان والتنوّع الديني وثقافة الاختلاف..” ظلّ واقع باتت فيه فرضيّة استعداء الآخر لنا حقيقةً يُشكَّك في من يُشكِّك بها، ونظريّة المؤامرة أسلوب حياة يُحكَم بخروج منكره من الملّة.

استخدام نظريّة المؤامرة للتضليل ليس حكراً على الدول العربيّة والإسلاميّة ومثيلاتها من الدول أحاديّة الثقافة ونظام الحكم، فثمّة ساسة في الولايات المتّحدة وقلّة من الدول الأروبيّة قاموا بتوظيف هذه النظريّة في سياقات محدّدة لتبرير إخفاقهم في الحكم أو فشلهم في الفوز بالانتخابات، وكان الأخير في هؤلاء وليس آخرهم؛ العبد الفقير إلى الله دونالد ترامب. التعلّل بوجود مؤامرة إذن، سلوك يلجأ عادةً إليه الفاشلون بوصفه وسيلةً لتبرئة النفس من التقصير وإلقاء المسؤوليّة على الغير، سواءً كان هذا الغير فرداً أو مجموعةً أو حزباً سياسيّاً أو دولةً بعينها أو العالم بأسره.

في كتابه “نظريّات المؤامرة في العالم العربي”، يفصّل الباحث الأسترالي ماثيو غراي، كيف تحتلّ فرضيّة التآمر على المنطقة وشعوبها مساحةً كبيرةً في السياق السياسي السائد وتساهم في خلق مواقف وتكوين رأي عام قد يكون منفصل تماماً عن الواقع ومتناقض مع الحقائق الموثّقة، وكيف تستثمر بعض الدول هذه النظريّة في خدمة غايات وأهداف سياسيّة محددة. استشهد الكاتب بعدد من الأمثلة المستمدّة من أحداث اجتاحت الدول العربيّة أو أثّرت عليها بشكل مباشر، مثل حربي الخليج ضدّ العراق وأحداث الحادي عشر من سبتمبر.. وما واكبها من حكايات ومعلومات تمّ تداولها على نطاق واسع بالرغم من تكذيب الحقائق الإحصائيّة والتوثيقات لها، حيث يضرب الكاتب في ذلك مثلاً بما تداولته شعوب المنطقة حال وقوع الهجمات الإرهابيّة على برجي التجارة في نيورك؛ من أنّ (4000 شخص يهودي ممن يعملون في البرجين لم يحضروا للعمل صبيحة يوم الهجوم لأنّه تم تحذيرهم مسبقا، ولا يوجد بين الضحايا من هو إسرائيلي أو يهودي..”، مع أنّ عدد من قضوا من اليهود في تلك الهجمات يقدّر بحوالي 500 شخص بينهم 5 يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة.

في ظلّ اجتهاد “كلّ من هَبَّ ودَبّ” في تشخيص وتحديد ما يحاك ضدّ الأمّة من مؤامرات، أطلق الداعية السعودي علي المالكي منذ سنوات قليلة تصريحاً مأساويّاً ثلاثي الأبعاد، إذّ انطوى على استخفاف بعقول متابعيه وجهل وتمييز بغيض، حيث صرّح في إحدى لقاءاته

بأنّ: “الأمّة الإسلاميّة تتعرض لمؤامرة كبرى، حيث تقوم الدول الغربيّة بوضع مادّة في الهمبورجر تقتل الجينات المنويّة الذكوريّة لدى الرجال ومثيلاتها من الجينات لدى النساء في دولنا لكي لا ننجب إلّا إناثاً فيكثر عدد النساء، وذلك لأنّ أعداء الأمّة يعلمون أنّ الرجال قوّة وأمل في القيادة..”. هذا التصريح الصبياني المخجل، فضلاً عن انطوائه على مغالطة علميّة تنمّ عن جهل مُطْبِق بما بات معلوماً بالضرورة لدى عامّة الناس من أنّ حيوانات الرجل المنويّة هي المسؤولة عن تحديد نوع الجنين وليس لبويضة المرأة أي دور في هذا الصدد وكذلك ما انطوى عليه من تمييز وعنصريّة مقيتة ترى في المرأة سبباً لإضعاف المجتمعات، فإنّه يظهر المستوى العبثيّ في التفكير والطرح الذي وصل إليه البعض ممن استمرءوا تعاطي لنظريّة المؤامرة حتى أدمنوها واستعذبوا ما تحدثه فيهم من نشوة تجعلهم يرون أنفسهم أسود دون أن تسود.

في نهاية المطاف، لا بد من الاختيار بين ضرورة مراجعة الأفكار وتحويل المسار والنزول من فوق ظهر الحمار والقفز في آخر عربة من القطار؛ علّه تصيبنا نفحة من رحيق تحضّر الأمم “الحاقدة الحاسدة التي ولّت أمرها نساءها”؛ فحكمنّ دولهنّ وأدرنّ مؤسساتها الدستوريّة والاقتصاديّة والعسكريّة والثقافيّة والااجتماعيّة.. باقتدار ونجاح حتى أوصلنها إلى ما هي عليه اليوم من حالة رخاء، وبين المضيّ في حالة التنبلة والاسترخاء والاستمرار في لعب دور الأرجوز في مولد درأ الشبهات وكشف المؤامرات وأخذ الحيطة والحذر والاستعداد لحرب التشيكن ناجتس والهمبورجر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى