مقالات

شعراء يؤكدون خلود القضية الفلسطينية في وجدان النص الشعري العُماني

التاج الإخباري – بسام العريان

لطالما كان للقضية الفلسطينية مسار واضح في مفردات الشعر العُماني، ومنذ عقود شتى، فقد ترسّخت فكرتها؛ لتكون نهجًا عُمانيًا قوميًا خالدًا، لتُحدث ذلك الهاجس الفكري الواقعي في أبجديات القصيدة العُمانية، وعلى الرغم من اتّساع مساحة تلك القضية الواقعية الإنسانية في مفردات الأدب الشعري، إلا أنَّ طموح الشعراء العُمانيين أكبر من ذلك، فقد تمثّل ليكون خارطة طريق تنهله الأجيال، خاصة إذا ما علمنا أن تناولها «شعريًا»، بات أمرًا حتميًا لا جدال فيه، ولا بد أن يُكرَّس بطرق تتوافق مع ما تتعرَّض له الأرض الفلسطينية من تغريب على المستوى الثقافي والفكري الإنساني، ولأجل هذا ثمّة أسئلة تفتح نوافذ البوح وحكايات القصيدة، وأهمّها، كيف يرى الشاعر العُماني القضية الفلسطينية ؟ وماذا عن آليات إظهارها قضيةً قوميةً إنسانيةً للأجيال المقبلة بصورة أكثر واقعية، أدبيًا وفكريًا؟ وما التقنيات الأدبية التي يجب أن تتناول تاريخ تلك القضية التي طوّقها التغريب من كل حدب وصوب؟

توضح الدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسية رؤية الشاعر العُماني للقضية الفلسطينية وتقول: تناول الشاعر العُماني القضية الفلسطينية منذ الاحتلال 1948 م، ولم ينقطع عن تناولها للآن؛ كونها الهمّ العربي الأكبر منذ بداية سرقة فلسطين ودخول العرب في حروب عديدة لاستعادتها وطبعًا المحاولات باءت بالفشل؛ لمساندة الغرب المتطوّر تكنولوجيًا وأسلحةً مع الكيان الغاصب والتساهل في ردعه رغم تصرّفاته المنافية للإنسانية، فالشاعر العُماني يرى حتمية وجود القضية الفلسطينية في شعره حيّة تنبض وعدم تجاهلها؛ فالشاعر العُماني مثله مثل الشعب العُماني نابض بانتمائه القومي وحريص على انتماءاته الثلاث: الوطنية والقومية والإسلامية، ومن هنا تكون رؤية الشاعر العُماني للقضية حاضرة وماثلة دومًا، ولا تمرّ الأحداث المهمّة دون أن يسجّل موقفا عُمانيًا واضحًا منها؛ ففلسطين في القلب حاضرة دومًا وأبدًا.

وتضيف «الفارسية» : الشاعر ليس بوقًا إعلاميًا ولا مفتيًا إصلاحيًا ولا سياسيًا يمتهن الدعايات الزائفة حتى ينادي بالقضية، فالشاعر إنسان يخاطب المشاعر ومن هنا ينبغي أن يركّز على اللقطات الإنسانية في القضية، وهذا ما قام به الشعراء في قضية محمد الدرة مثلاً وهي حالة إنسانية هزّت العالم بأسره، أو على صور القصف والدمار الوحشي الذي جعل الأسرة الفلسطينية مع أطفالهم يفترشون خيمة فوق ركام بيوتهم، أو صورة الطفل الخائف بين أسلحة الجنود الإسرائيليين، أو ضرب الجنود لرجل عجوز وإسقاطه أرضًا، أو احتلال الصهاينة لمنزل المرأة التي أوضحت أنّه يريد أن يسرق منزلها ليسكن هو فيه، ومن ثم تطردها حكومة إسرائيل لمصادرة الأراضي الفلسطينية، هذه الصور ذات وقع إنساني كبير وتجسيدها شعرًا ثم ترجمة ذلك الشعر للغات عديدة بعيدًا عن الشتائم والسباب لليهود ولإسرائيل كل هذا له تأثير إيجابي كبير ويوصل القضية للآخر بكثير من الواقعية والصدق بشكل أكثر نضجًا وحرارة… وهذا يذكّرني بموقف الجمهور الألماني في معرض الكتاب العربي بفرانكفورت، ذلك الجمهور الذي حضر بكثافة قبل موعد أمسية الشاعر الفلسطيني محمود درويش ووقفوا في طابور طويل ليشتروا دواوينه التي ابتيعت معظمها؛ لأنها مترجمة أولًا للغتهم ولأنهم يعرفون الشاعر سابقًا ويعرفون أنه يمثّل القضية الفلسطينية، وقبل أن تبدأ الأمسية كانت القاعة الكبيرة قد امتلأت بالجمهور الألماني ومن لم يجد مكانًا ظل وقفًا مستندًا على الجدار وهذا ينمّ عن تولُّه حقيقي وشغف وتقدير للفن الصادق المُبدع ورغبة من الجمهور في التعرُّف إلى جوهر القضية الفلسطينية ومعاناة الإنسان هناك، فالفن له دور كبير في توعية الآخر بالقضية خاصة عندما يكون الفن هادفًا وراقيًا.

وللدكتورة سعيدة بنت خاطر رأي في التقنيات الأدبية التي يجب أن تتناول تاريخ تلك القضية التي طوّقها التغريب من كل حدب وصوب حيث تقول: أرى أنّ الصورة أسهل وأوضح في التطواف حول العالم؛ فالتصوير والفنون التشكيلية والموسيقى والفن السينمائي إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، هي الأسرع وصولًا كتقنيات حديثة واسعة الانتشار يستخدمها الشاعر والأديب والمبدع عمومًا لإيصال صوته وقضيته التي يتبنّاها، والحقيقة أنّ إسرائيل حاولت طمس القضية ودمج فلسطينيي الداخل وتذويبهم داخل الكيان المحتل، لكن الحرب الأخيرة أوضحت أنّ محاولات الكيان مجرد أوهام لن تتحقق طالما هناك مَن يطالب باسترداد أرضه وحقه.

كما تؤكد الدكتورة فاطمة الشيدية أن «الشعر ديوان العرب وفلسطين قضيتهم الأولى».. وتقول: إذا كان الشعر هو ديوان العرب فإنّ فلسطين هي قضيتهم الأولى؛ القضية التي يجب وجوبًا حادًا وصارمًا أن تشغل الجميع بشكل يدفع بها للعلن دائما، والشاعر بروحه المتحدة مع الكون وضميره اليقظ بالعدالة والإنسانية والمساواة لا تستطيع روحه إلا أن تتجلى فيما يكتب، ولا يستطيع تجاهل قضية عادلة وإنسانية كفلسطين، وعن دور الشاعر العماني في القضية الفلسطينية تقول الدكتورة الشيدية إن الإنسان العُماني ليس بعيدًا عن هذا الجرح النازف وعن هذا الألم الدافق وعن التاريخ الذي يرام له الدفن، وعن الوطن المُغتصب، والشاعر هو إنسان قبل وبعد كل شيء، إنسان متجذر في الأرض كنسغ وماء يمتص لهفة الكون وأحزان الأرض ووجعها، الشاعر قضية تمشي على قدمين وجرح يكتب نزفه؛ لذا لا يمكن له إلا أن يجعل (فلسطين) قضيته ولغته وشعره، يكتب عنها ولها، يكتب فيها كعاشق أضناه البعد وحبيب فُرق بينه وبين محبوبه. فالشاعر العُماني – حسب تعبيرها – يكتب بحب عن الحب، وبلهفة عن الضياع، وبحلم عن العودة، يكتب القضية شعرًا وإنسانًا، فالقصيدة لا تنتهج منهجًا، ولا تستطيع توثيقًا ولا تروم تحقيقًا دقيقًا، الشاعر العُماني ككل شاعر في كل زمان ومكان يُلبِس القضية فتنة الحب واللغة لتكون حاضرة وخالدة؛ لذا نجد فلسطين في شعره دمعة أم فقدت وحيدها في غارة، وصرخة أخ فقد عضيده في سجون الاحتلال، وحجرًا صغيرًا في يد طفل يتعلّم المشي لا يعرف عن الوجود أكثر من زجاجة الحليب وحضن الأم التي غابت عنه فجأة ذات ليلة ظلمًا وعدوانًا على يد عدو احتلّ الأرض وقتل الأم، يلبسها روح عروس فقدت زوجها بقذيفة مدفع إسرائيلي ليلة العرس، وهكذا يصبح الشعر بعيدًا عن الإعلان والإعلام، وأكثر من الرصاصة، وأصدق من مدفع.

وتضيف «الشيدية» : إنّه لا يكتبها إلا بآليات الشعر الخاصة به كالصورة الجارحة والإحساس المتلبّس بها وليس بنيّة إظهارها كقضية قومية – وهي كذلك فعلا- بل لإظهارها بصورة إنسانية للعالم الذي يصمّ أذنيه، ويعمي عينيه، ويُغلق قلبه وروحه عن كل ذلك الدم، وكل ذلك القتل والتشريد والتهجير، يكتبها في القصيدة كي لا ينسى العالم بذاكرته التي يتّسع ثقبها يومًا بعد يوم، يكتبها للأجيال القادمة بصورة أكثر واقعية وأكثر صدقا وتماسا مع الإنسان والدم، ولكن بفنية عالية تليق بالشعر وبجمالية مدهشة تشبهه تمنحها الانتشار والخلود بعيدا عن الجاهزية الفنية، والكلام المُتاح الذي يفقد تأثيره بعد كل انتفاضة وحادثة ويصبح ميّتا وغير قابل حتى للتدوير أدبيًا وفكريًا؛ لأن الشعر هو صيغة الخلود لكل شيء يمسّه، ولكل قضية يطرقها من الداخل للخارج ومن الخارج للداخل.

وفيما يتعلّق بالتقنيات الأدبية التي يجب أن تتناول تاريخ تلك القضية التي طوّقها التغريب من كل حدب وصوب، تشير الدكتورة فاطمة الشيدية إلى أنَّ الشاعر العُماني بتحديده الإقليمي وضميره الكوني كما كل شاعر على هذه البسيطة، يبتكر دائما صورته الخاصة ليشعل قصيدته بالرؤى الجديدة، ويصبّ ملحا على جراحه الوجودية ليكتب بالدم تماما متفنّنا في التقنيات التي تتناول القضية التاريخية ليجعلها حيّة نابضة كما يجتهد ليجعلها هويّة لكل ضمير حي، بعد أن تفنن العدو القادر في محاولة جعلها بلا هوية وصبغها بصيغة التغريب السياسي. وهنا تضيف بقولها: ذلك لأن الشاعر الحقيقي – مع مليون خط تحت كلمة حقيقي – هو جبهة الدفاع الأولى عن قضايا الخير والعدل والإنسانية بأدواته التي تنبثق من الضمير وتصل للضمير، وتتدثر بالبلاغة وتتصاعد في المجاز. وسيف الرحبي وسماء عيسى وعبدالله حبيب وصالح العامري – على سبيل المثال لا الحصر – وغيرهم من شعراء الجمال والصدق في عُمان كتبوا عن القضايا الإنسانية وعلى رأسها قضية فلسطين الأكثر عدالة وإنسانية وبهاءً.

ويشاء أن يأتي الشاعر عبدالله العريمي، محمَّلا بوهج روح القضية الفلسطينية عندما تتجلّى في ذات القصيدة العُمانية كوقع استثنائي خالد؛ فالشاعر العُماني يرى القضية الفلسطينية أن تكون في شعره كما يصفها «العريمي» بأنها مرتبطة بتاريخنا، بإنسانيتنا، بديننا، بكرامتنا العربية، وأي شكل من أشكال التنصّل منها يعني التنازل عن مكوّن رئيس في كل ذلك، وصرف النظر عمّا تشهده فلسطين من أحداث يسبّب خللًا في إنسانيتنا بل يؤكد وجود تخشّب وتكلّس في مفاصل هذه الإنسانية، ويؤكد العريمي في السياق نفسه: في الوقت ذاته فإنّ التهجير والقتل وكل أشكال الاعتداء على فلسطين لا يمكن أن يحقّق شعرا صافيا؛ فالقصيدة كائن حي لا يحيا بلا ماء، ماء الحياة الذي يضخّه إحساسنا بمعزل عن جنون محيطنا الحسي، بيد أنّ هذا لا يعني بالضرورة صمت الشعراء أو صيامهم عن الصراخ الشعري رغم أنّ المجاز الذي تشهده فلسطين أعلى من الشعري بكثير، والفعل الإنساني بروحه الإلهية من قِبل الفلسطينيين أكثر دقة وأبلغ تعبيرا، وأما فلسطين فإنها تظل محرّكا ودافعا للكتابة دائما وشكلا من أشكال المقاومة التي يدافع بها الشعراء عن كرامتهم الإنسانية وحقهم في الكلام والحرية؛ لذلك فإنّ الشعر بصفته كائنا كونيا لا يمكن أن يقف على حياد إزاء اللا إنسانية والهمجية والبربرية الصهيونية ضد أرض مقدّسة وشعب عملاق.

وعن آليات إظهارها كقضية قومية إنسانية للأجيال المقبلة بصورة أكثر واقعية، أدبيا وفكريا، يقول «العريمي» : إنَّ ما يشهده الإنسان في فلسطين واقع مرير لا يمكن تزويره أو تقنيعه تماما كما يستحيل وصفه، ولكن ماذا عن صورتنا نحن كأمة إسلامية وعربية، ماذا سنقول للأجيال القادمة، كيف يمكن أن نبرر لهم موقفنا، كيف يمكن أن نقنعهم بأن القصيدة تعادل لعبة طفلة على هامش الحياة وفي ظلمة سماسرة الموت، وأنّ الكلمات يمكن أن تكون تعويضا عن الحياة، لسوء حظنا أن حياتنا ستكون هيكلا لهزيمتنا كأمة، لذلك فإننا لا نحتاج إلى آليات كتابة تنقل صورة واقعية لفلسطين؛ لأن الأجيال القادمة ستكون أكثر حساسية تجاه الحق الفلسطيني، الحق الذي يولد من الباطن الإنساني، وهذه المساحات سواء في الوعي أو اللا وعي هي ما تحقق المعادلة الأدبية والفكرية ليدرك قارئٌ ما درجوا عليه أناس قبله، وكيف عاشوا وكيف ماتوا، وهو الأمر الذي سيولد كزهرة لوز وسط ما خلّفه الدمار والألم، ويركض كنهر أملٍ بين أحافير الغصب.

ويضيف الشاعر عبدالله العريمي أنه من الطبيعي أن تكون لكل شاعر أدواته وتقنياته القادرة على استيعاب اشتغالاته النصية المفتوحة، ولكن قد يكون البناء الجمالي والتراكيب القائمة على الصور والمشهدية الدرامية والإيقاع السردي مع استثمار التراث والتاريخ لبناء قاع أسطوري للقصيدة هو الأنسب والأقدر على كسب تفاعل القارئ وانفعاله مع رؤى النص وتعميق علاقته مع مؤثراتها الجمالية ومشاهدها المفتوحة.

أما الشاعر عبدالله الكعبي فيفنّد «كيف يرى الشاعر العُماني القضية الفلسطينية في شعره؟» وهنا يفسّر ذلك المعنى بقوله إنّ العُماني شاعرا كان أو مواطنا عاديا تربّى على العدل وإرجاع الحقوق لأصحابها وهذه التربية انسربت له من خلال العادات والتقاليد وتربية القادة له. ويضيف الكعبي: لذا تجده شاغلا باله وشعره بالقضية الفلسطينية، واعتبارها القضية الأولى في حياته، ولا يمكن أن يخلو شعر أي عُماني من القضية الفلسطينية واعتبارها المحرّك الأساس للكتابة.

ويوضح الشاعر عبدالله الكعبي إظهارها قضيةً قوميةً إنسانيةً للأجيال المقبلة بصورة أكثر واقعية، أدبيًا وفكريًا، مبيّنا أنه في عصرنا الحاضر باتت الطرق كثيرة في نشر وفضح ما يقوم به العدو الصهيوني من سلب الأراضي وقض الراحة والأمان للأطفال والعجزة، بنشر وفضح كل الانتهاكات الإنسانية، فما أسوأ أن تفقد بيتا بسهولة في فلسطين وذلك بالتعّمق بأخذ أرض وبيت الفلسطيني وتهجيره، وعليه فإنَّ نشر كل كلمة حق عنهم في وسائل التواصل الحديثة واجب إنساني وعربي، إما بكتابة نص أو نشر صورة أو حتى بالدعاء وهذا أضعف الإيمان. ويفيد الكعبي: أرى أنّ العصر الحالي عصر النشر والإعلام المرئي وسهولة النشر في المواقع التواصل الاجتماعي، حتى عن طريق الحوار من خلال الغرف الاجتماعية الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي للتحاور عن القضايا.

وعن تتناول القضية التي طوّقها التغريب من كل حدب وصوب، يقول الشاعر عبدالله الكعبي: في هذا الشأن لنا أن نبيّن أن الأرض أصلها عربي ومستلبة وأنها حق الفلسطينيين، ويجب تناولها دومًا من خلال الحوار والوسائل المنطقية.
نعم تقبل التعايش ولكن ذلك بعد أخذ الحقوق، فالشعر برأيي أهم الوسائل في نشر القضية وهو أسهل وأعمق تناولا من خلال العاطفة. الشعر يبقى ديوان العرب، وهو المحرّك لشحذ الهمم والعاطفة لأهم قضية عربية على مرّ التاريخ، التي تحتاج لمناصرتنا دومًا.

وتتقاطع الشاعرة رقية البريدية في حديثها مع أفكاره الشعراء العُمانيين أعلاه فهي توضح كيف يرى الشاعر العُماني القضية الفلسطينية أن تكون في شعره عندما تقول : لقد انشغل الشاعر العُماني بالقضية الفلسطينية باعتبارها جزءا من تكوينه المشاعري والإنساني إضافة إلى انتماءاته القوميّة، فرغم سطوة الذاتية على الشعر العُماني إلا أن حضور القضية الفلسطينية بملامحها المختلفة وصورها المتنوّعة بين الغضب والألم والحزن والتفاؤل والاستنهاض كان قويًّا ومُلهمًا ولاسيما مع كلِّ صدى للمقاومة أو صرخة للثوّار أو مشهد للظلم والاحتلال، ولا أعتقد أن الشاعر العُماني يقصد مجرد رصد حدثٍ تاريخيٍّ، أو وصف مشهدٍ دراميٍّ أو إظهار براعةٍ فنيَّةٍ في نقل صورةٍ داميّة من خلال تناوله للقضيّة الفلسطينيّة، ولكنَّها تكوينٌ حقيقيّ لهويّته العربيّة والدينيّة والثقافيّة والإنسانيّة، وهي إحساس متيقظ بواجبه القوميّ والدينيّ والإنسانيّ، لذلك يحرص على نحتها بالتفاصيل التي تُبقيها حاضرة في ذهن المتلقي العربي، كما أنّه فيما أحسب يشعر بمسؤوليته كشاعر أمام الأصناف الأدبية الأخرى، ويدرك أنّ الشعر سلاحه الأقوى للدفاع عن قضاياه.

وتفسّر «البريدية» تلك الآليات الأدبية فتقول : إن التكوين الفكري للأجيال مختلفة ولكل جيل خصائص ومعطيات تتناسب مع بيئته الثقافية التي نشأ فيها، فنحن على سبيل المثال تلقّينا القضية الفلسطينية من الجيل السابق من الشعراء من خلال شعر المقاومة والاستنهاض، وربما كان ذلك أكثر مناسبة لبيئتنا الثقافية البسيطة بين ما نتلقاه في مناهجنا المدرسية من أشعار من الاتجاه الأدبي وبين القيمة الدينية التي تغرس في نفوسنا عبر ترسيخ المكانة الدينية للقدس الشريف، لكننا ندرك أن الأجيال القادمة لن تشبهنا في نظرتها للقضية الفلسطينية ولن تحتاج لتلقي دفعات الاستنهاض على سبيل المثال، وإنما يتوقع من الأجيال القادمة أن تكون أكثر وعيًا قانونيًّا بالحقوق والواجبات، وأكثر اتّساعًا في نظرتها للقضية الفلسطينية كقضية إنسانية قائمة على قوانين واتفاقيات لضمان الحقوق؛ لذلك بدأنا نرى مسارات أكثر اتّساعًا للشعر العُماني في هذا الجانب. وتؤكد في حديثها: شخصيًا لا أعتقد أنّنا نحتاج الآن لنقل الألم ومعاناة الشعب الفلسطيني شعريًّا وأدبيًّا لأنها مُتاحة عبر الإعلام الإلكتروني المرئي والمقروء، ولا شك أننا نرى الوقائع ونشعر بأوجاع الشعب الفلسطيني ونتعاطف لقضيتهم، ولكننا نحتاج لترسيخ مفاهيم الانتماء ومفاهيم المقاومة، وقيمة الوطن مقابل الحياة أو الموت (الشهادة)، ومعاني التضحية لأجل المبدأ ولأجل الكرامة والإنسانية، وكذلك مفهوم التكاتف وأهمية الدعم المعنوي قبل المادي وما إلى ذلك من المبادئ التي نخشى أن تفقدها الأجيال القادمة نتيجة التلقي المُعتاد والباهت للأحداث والنزاعات في زحمة الانشغال بترف الحياة والبحث عن الرفاهية.

وتبيّن الشاعرة رقية البريدية أنّ التغريب يشكّل تحديًّا صعبًا، لا يمكن تجاوزه دون الإيمان بدور الأدب بمختلف أشكاله شعرًا ونثرًا في دعم القضية الفلسطينية، ولكن طريقة التلقي يجب أن تتناسق مع معطيات الحداثة والتطوُّر الفكري والثقافي واتّساع الوعي.

وتضيف أيضًا: إنَّ نقل القضية بتقنيات أدبية يستسيغها المتلقي تعتمد على مدى إبداع الكاتب والفن الأدبي الذي اختاره لدعم قضيته، فلكل قالب فنيّ أدواته وتقنياته المختلفة؛ فللشاعر خياله وتجسيده للصور الفنية التي ينقلها عبر قصيدة شعرية، كما أنَّ للروائي براعته في إيجاد التأثير عبر شخصياته وتفاصيله الملحميّة وصراعات أحداثه التاريخية والسياسية، لكن ما أراه مهمًّا جدًا ألا يغفل أدب الطفل القضية الفلسطينية؛ لأنه المنطلق الأول الذي تتكوّن من خلاله المفاهيم وتترسّخ القضية، كما أرجو أن أرى اتّساعا سينمائيا داعمًا يصوّر لنا الحياة في بلد مُحتل وفي المخيّمات وما يتعلّق بذلك من تغيُّرات في التركيبة الاجتماعية والصراعات السياسية والفكرية والدينية وما إلى ذلك، وشخصيًا أميل إلى نقل الجانب المُشرق والإيجابي من القضية الفلسطينية من ثباتٍ وانتصاراتٍ وفرضٍ للهوية العربية، بدلا من تصوير المآسي والمعاناة والوجع؛ لأننا نحتاج لدفعات الأمل واليقين بنتائج دعمنا المعنوي والمادي للقضية لنتمكّن من الاستمرار في التلقي والكتابة.

ويرى الشاعر محمد العبري أن القضية الفلسطينية لا تزال هاجسًا يؤرّق الكلمة الحرّة، والنفوس الأبية، والروح المنسجمة مع قضاياها وما يحيط بها، وما يعتري الإنسانية جمعاء باختلاف أوطانها وألوانها ولغاتها، وهذا ما يتمثل جيدًا في الشاعر العُماني الذي يؤمن بالحق، ويأبى الظلم، تتجلّى له الفضيلة فيتخذها بوصلةً لا يحيد مسارها، ولا يضلّ صاحبها، فتلك غاية سامية، فلم تغب فلسطين عن قلبه، ولم تفارق قلمه؛ فهي جزء من حياته ومعتقده، فلم تبعده عنها حركات التغريب، ولم تؤثر عليه السياسة الساذجة التي تجعل من الضبع حملًا وديعًا، بل وقف عملاقًا مشرئبًا أمام كل هذه الأسلحة، وما الأحداث الأخيرة إلا دليل على ذلك، وكل حركات التهميش للقضية أصبحت وهمًا، فقد انبرى الشباب يدافعون وينافحون بكل ما أوتوا من طريقة ليكشف زيف ادعائهم وعودة القضية إلى أحضان الأجيال.

ولا يغفل (العبري) : يظل الشعر أداة مهمّة في ترسيخ أهمية القضية؛ فهو الحارس لأحداثها والموثّق لمقتضياتها، والمحفّز النشط في قلوب العامة ليؤمنوا بها ويقدّموا لها كل نفيس حتى تنجلي غُمة جثت على صدر أمّة، فكم قرأنا من الشعراء العُمانيين في مواقع التواصل بين الفينة والأخرى أشعارا تعظّم القدس ومكانته وحق الدفاع عنه، وأخرى تمجّد المقاومة الباسلة، وأخرى تضيف إلى الشهادة حياة ووعدا، وهناك ما تحارب الظلم وتدعو إلى دحره ليكون الإنسان إنسانًا، فلهذه التقنيات أثر بالغ في النفوس لتظل واضحة على العيان لا يمحوها شوبٌ ولا رمد.

ويختتم الشاعر محمد العبري حديثه بالقول : لا يكفي أن نعبّر عن إيماننا بهذه القضية في مواقع التواصل، بل يجب علينا غرسها في النشء وتعليمهم بأنها مبدأ وعقيدة وحياة، وأن الكيان سيزول قريبًا على أيديكم، شرط ألا تكون دعوات خجلى، فلنملأ بها المناهج ووسائل الإعلام المختلفة ولتُبث على الملأ، فالشعر أمكنُ في النفوس، وأقدرُ على التأثير متّخذين من النضال الفلسطيني رمزا، ومن الأحداث رواية، ومن المقاومة عنفوانا، ومن الشهادة شعرا، ومن البكاء نشيدا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى