عربي دولي

من القسطنطينية إلى موسكو.. ماذا يحدث حين تتصدَّع إمبراطورية كبرى؟

التاج الإخباري – يمكن أن تكون المنعطفات التاريخية قاتلة، خاصة بالنسبة إلى الإمبراطوريات، وتُجسِّد الحروب عادة ذروة المنعطفات التاريخية. ففي التاريخ الأوروبي القريب سقطت إمبراطورية النمسا والمجر المعروفة بدولة "الهابسبورغ"، التي حكمت وسط أوروبا لمئات السنين، بسبب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وينطبق الشيء نفسه على الإمبراطورية العثمانية، التي أشير إليها باستمرار منذ منتصف القرن التاسع عشر بوصفها "رجل أوروبا المريض"، ورغم نضال السلاطين العثمانيين لعقود من أجل بقاء دولتهم في القلب من العالم الإسلامي وخوضهم جولات عديدة من التحديث الإداري والعسكري، بل وإعادة تشكيل السلطنة العثمانية بالكامل على يد النخب الإصلاحية والثورية في منتصف القرن التاسع عشر؛ فإن الإمبراطورية لاقت مصير الزوال النهائي نفسه بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.

الإمبراطورية والفوضى

تماما كما يحدث في حالات الانهيار، تنشأ الإمبراطوريات والدول الجديدة من ثنايا الفوضى، لكنها تكون في بدايات ظهورها فوضوية وغير مستقرة. لقد كانت الدول التي نشأت على أنقاض إمبراطوريتي هابسبورغ وبني عثمان مضطربة وغير مستقرة في كثير من الأحيان نتيجة لعدم تجانسها العرقي، حيث وجدت الجماعات الإثنية والدينية العديدة نفسها فجأة في مواجهة بعضها بعضا في خضم نُظُم إقليمية وليدة غير مستقرة.

وقد ألهمت الأفكار النازية والفاشية الكثير من الفصائل المقاتلة من تلك الجماعات في أوروبا الوسطى بعد هابسبورغ وفي البلقان ما بعد العثماني، وكذلك بعض المفكرين العرب الذين درسوا في أوروبا وعادوا بتلك الأفكار إلى أوطانهم التي ظهرت حديثا على خريطة الشرق الأوسط وخضعت للاستعمار بضعة عقود قبل أن تنال استقلالها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وقد تجسَّد ذلك بالأساس في أيديولوجية حزبَي البعث السوري والعراقي، التي ارتكزت إلى القومية العربية المتطرفة في المشرق العربي.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تكهَّن رئيس الوزراء البريطاني "وينستون تشرشل" بأنه لو لم تتم الإطاحة بالممالك الإمبراطورية في ألمانيا والنمسا وأماكن أخرى في العالم بعد مؤتمر السلام الذي انعقد في مدينة ڤرساي الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى، لربما لم يكن هتلر قد وصل إلى السلطة في ألمانيا على أنقاض وجراح الإمبراطورية المهزومة والجريحة، ولربما لم تندلع الحرب العالمية الثانية من الأساس.

لقد مثَّل زوال الإمبراطوريات المستندة إلى سلالات حاكمة بعينها في العقود الأولى من القرن العشرين، والاضطرابات الجيوسياسية التي ترتبت عليه في العقود اللاحقة؛ عاملا حاسما في تشكيل طبيعة القرن العشرين حتى نهايته. ورغم أن المثقفين التقدميين لا يحبون الإمبراطوريات والسلالات الحاكمة، فإن الانهيار الإمبراطوري أحيانا ما يؤدي إلى واقع فوضوي أكثر خطورة ورجعية من الإمبراطوريات التقليدية والسلطانية. فقد شهد المشرق العربي تقلُّبات عنيفة على مدى الأعوام المئة الماضية نتيجة انهيار الإمبراطورية العثمانية، ويبدو أنه مستمر في دفع فاتورة انهيارها دون أن يتمخَّض عن "استقلاله" النظري عقد اجتماعي أفضل من ذلك الذي عاشت في كنفه الجماعات العرقية والدينية المختلفة تحت مظلة الدولة العثمانية.

يجب أن نضع هذا في اعتبارنا حين نحاول فهم المنعطفات التاريخية اللاحقة لسقوط الإمبراطوريات، لا سيّما في الوقت الحالي بينما يحتد الصراع بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة والغرب من جهة، فقد تبدو هذه القوى العظمى اليوم أكثر هشاشة في الداخل مما تبديه من قوة وصلابة في سياساتها الخارجية، ومن ثَم قد ينجم عن سقوطها أو تراجعها السريع معالم فوضى أسوأ من تلك التي وُجِدَت تحت رعايتها. لقد بدأت الدولتان الأبرز في زمن الحرب الباردة، روسيا والولايات المتحدة، بإشعال حروب مُدمِّرة للذات، فشنَّت روسيا غزوها في أوكرانيا، ومن قبلها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003 على الترتيب. أما الصين، فإن هوسها بغزو تايوان قد يؤدي بها إلى سياسات ترتد عليها بالسلب في نهاية المطاف، وإن كان سيناريو غزو تايوان بعيدا نسبيّا بسبب تشعُّب علاقاتها التجارية بالدول الغربية وبتايوان نفسها.

تُظهر القوى العظمى الثلاث القائمة حاليّا في السنوات الأخيرة إستراتيجية غير حكيمة حين تنخرط في جهود عسكرية تجني ثمارها على المدى القصير، في حين تُهدِّد بها بقاءها على المدى الطويل دون أن تدرك ذلك بالكلية. اليوم، إذا ما تم إضعاف القوى الكبرى دون بديل واضح في الأفق، فإن الفوضى والارتباك سيسودان أنحاء متفرقة من العالم، وهو ما نشهده بالفعل في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، إذ انسحبت الولايات المتحدة من التزاماتها السياسية والاقتصادية جزئيّا، وتركت المنطقة إلى مصيرها المجهول.

علاوة على ذلك، سيؤدي إضعاف القوى العظمى الحالية إلى عجز الولايات المتحدة عن مساعدة حلفائها في أوروبا وآسيا بالشكل المطلوب، وإذا تراجع أو ضعف دورها في هاتين المنطقتين المحوريتين للاقتصاد العالمي، فلن ينجم عن ذلك إلا فترات طويلة من عدم الاستقرار. ورغم أن روسيا أضعف مؤسسيّا من الصين، فإن ضعف نظامها السياسي الاستبدادي أو انهياره بالكامل قد يؤدي هو الآخر إلى صورة أشبه بالصورة الكابوسية ليوغوسلافيا منتصف التسعينيات، وقد كان تفكُّك الاتحاد السوفيتي تجليا لذلك، فما انفكَّت تتفجَّر الصراعات الإثنية منذ تراجع القوة الشيوعية دوليا، من البلقان والقوقاز وحتى المشكلات الحدودية في آسيا الوسطى. بالمثل، سيُحدِث أي اضطراب اقتصادي أو سياسي في الصين اضطرابات كبرى داخل البلاد، وسيشجِّع الهند وكوريا الشمالية على الأرجح على اتخاذ سياسات عدوانية في محيطهما.

القوى العظمى المرتبكة في عصر العولمة

تحمل كل من روسيا والصين سمات القوى العظمى التي تكافئ الإمبراطوريات الكبرى التي هيمنت على مناطق شتى من العالم قبل حوالي قرن من الزمان، رغم أنهما ليستا إمبراطوريتين بالمعنى التقليدي. فغزو روسيا لأوكرانيا مثلا يرتكز على دوافع جيوسياسية مماثلة لدوافع الإمبراطوريتين القيصرية والسوفيتية في الاهتمام بشرق أوروبا، ونوايا الصين العدائية تجاه تايوان تعود هي الأخرى إلى رغبة الأباطرة الصينيين القدامى في السيطرة على سواحل شرق آسيا. وبدورها، فإن هيمنة الولايات المتحدة عالميا بعد الحرب العالمية الثانية منح دورها الكثير من السمات الاستثنائية التي لم توجد إلا في الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ.

اليوم، تواجه هذه القوى العظمى الثلاث مستقبلا غير واضح، فلا يمكن استبعاد انهيار أيّ منها أو حدوث درجة من التفكك الدستوري والاجتماعي لكل منها، وبينما تمتَّع الولايات المتحدة والصين بدرجة من الاستقرار الاجتماعي والرخاء الاقتصادي، فإن روسيا على العكس منهما تواجه الخطر الأكثر إلحاحا اليوم حتى لو انتصرت بطريقة ما في حربها على أوكرانيا، إذ يتعيَّن على روسيا مواجهة الكارثة الاقتصادية المتمثلة في الانفصال عن اقتصادات الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى مع عجزها عن إيجاد بدائل للرخاء الاقتصادي الذي نعمت به طيلة العقدين الأولَين من القرن الجديد. ولذا بوسعنا القول إن روسيا اليوم هي رجل أوراسيا المريض، كما كانت الإمبراطورية العثمانية في أوروبا قبلها بحوالي قرن ونصف القرن تقريبا.

في الوقت ذاته، تبدو الصين فتية ومتماسكة، لكن سنوات اقتصادها الذهبية بدأت في الأفول كما تشير المؤشرات، إذ إن النمو الاقتصادي للبلاد بلغ ذروته منذ أعوام وبدأ في التراجع بالفعل، وبدأ المستثمرون الأجانب يفرون من البلاد عن طريق بيع مليارات الدولارات من السندات والأسهم الصينية، بالتزامن مع تقدُّم سكانها في السن وتناقص قوتها العاملة خلال العقود المقبلة. لا يبدو ذلك واعدا للاستقرار الداخلي، حيث تشير غالبية التحليلات إلى أن الرئيس الصيني "شي جين بينغ" بدأ في خنق القطاع الخاص الذي صنع مجد الاقتصاد الصيني باستدعائه بعض الممارسات "المَاوِيَّة" المتشددة التي تعتمد على الدولة، ولربما يؤدي ذلك على المدى الطويل إلى خفض مستوى المعيشة في الصين، ويقوِّض السلام الاجتماعي والتأييد الشعبي للنظام.

في المقابل، وبينما تتمتَّع الديمقراطيات بنظم أكثر شفافية، فإن مشكلاتها الحالية ليست بالضرورة أقل حِدَّة. بعد فترة طويلة من العولمة منذ انهيار الشيوعية السوفيتية، بات نصف سكان الولايات المتحدة عالقا في معركة بين أولئك الذين يدعمون أن تكون بلادهم حرة ومتعددة الثقافات، وأولئك الذين يعارضون تلك القيم بسبب رغبتهم في حياة أكثر تقليدية ومحافظة. فمنذ نهاية الحرب الأهلية، تمتَّعت الولايات المتحدة بعزلة جغرافية وسياسية كبيرة خلقت تماسكا مجتمعيا بين مجتمع من المهاجرين المسيحيين الأوروبيين، ولكن هذا النموذج المنعزل نسبيا بات أقل جاذبية في عصر العولمة والتفاعلات الثقافية المتزايدة والمكثفة، لا سيّما مع صعود الملايين من الطبقات الوسطى المتعلمة في الصين والهند وغيرهما، وتوافدهم على الولايات المتحدة بأعداد غير مسبوقة، بالتزامن مع تأثير توجُّه الصناعات بكثافة نحو الصين بدلا من أميركا، وهي تحوُّلات أجّجت الغضب الشعبوي والاستقطاب الأيديولوجي، وأفضت في الأخير إلى صعود دونالد ترامب.

هنا نجد أنفسنا أمام 3 احتمالات: الاحتمال الأول أن تتعافى الولايات المتحدة من الاضطرابات الداخلية وتبرز بصفتها قوة أحادية القطب من جديد مثلما فعلت مباشرة بعد الحرب الباردة أمام تراجع بطيء للصين وتدهور روسيا السريع. والاحتمال الثاني العودة إلى عالم ثنائي القطب تحافظ فيه الصين على حيويتها الاقتصادية حتى مع تزايد الاستبداد جنبا إلى جنب مع القوة الأميركية بالتزامن مع تدهور روسيا. أما الاحتمال الثالث فهو أن الدول الثلاث ستتراجع نتيجة عوامل مختلفة ومُعقَّدة؛ ما يخلق نظاما دوليا أكثر فوضوية، لا سيّما في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، حيث تصير القوى المتوسطة أقل تقيُّدا في ممارسة قوتها السياسية والعسكرية، مثل الهند وتركيا وإيران والسعودية وإسرائيل، وحينها لن تتمكن الدول الأوروبية من الاتفاق على نظام واضح دون قيادة أميركية قوية، في حين سيخلق تراجع روسيا ومغامراتها العسكرية معا حالة فوضوية على حدودها الشرقية.

عدم اليقين في زمن الأسلحة النووية

تُعَد الإمبراطورية البيزنطية، التي استمرت من عام 330م حتى نهب الحملة الصليبية الرابعة للقسطنطينية عام 1204م، مثالا على طول العمر، وقد نجت نسبيا منذ عام 1204م وحتى سيطرة الإمبراطورية العثمانية على إسطنبول عام 1453م، رغم التضاريس الصعبة وتعدُّد الأعداء وتنامي قوتهم مثل روما الكاثوليكية في الغرب. ولعل ذلك مثير للإعجاب، لا سيَّما أن القسطنطينية كانت أكثر عرضة للخطر من روما في الغرب، بيد أن بيزنطة اعتمدت على مجموعة واسعة من وسائل الإقناع والدبلوماسية، مثل تجنيد الحلفاء وإثناء الأعداء وتحفيز الأعداء على مهاجمة بعضهم بعضا، بدلا من القوة العسكرية الخشنة، كما يصف الأكاديمي الأميركي "جون ميرشايمار" إستراتيجية البيزنطيين: "كان البيزنطيون أقل ميلا لتجذير صراعهم مع أي عدو، لأنهم عرفوا بأن عدو اليوم يمكن أن يكون حليف الغد".

هذا النهج الواقعي البراغماتي صار صعبا تحقيقه اليوم في الولايات المتحدة في ظل حكم الديمقراطيين تارة، الذين ما انفكوا يتحمَّسون لنشر نسختهم من الليبرالية منذ صعود إدارة باراك أوباما، وفي ظل حكم الجمهوريين تارة أخرى، الذين غرتهم قوة أميركا بعد نهاية الحرب الباردة وسعوا لبسط هيمنة الولايات المتحدة الخشنة أثناء إدارة "جورج بوش" الابن. وقد أسهم الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء في تآكل النهج البراغماتي الذي انتهجته الولايات المتحدة في الحرب الباردة، مع تزايد هوس إداراتهم المتعاقبة بنشر نسختهما من الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام العالمي في شتى أنحاء العالم.

إذا ما أخذنا نظرة مركبة على عالم اليوم، فسنرى أن سياسة عدم التدخل الأميركية ولَّت إلى غير رجعة، فقد شكلت الولايات المتحدة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة بشكل لا يسمح لها بالانسحاب منه، والأمر الأهم هو أن العالم نفسه بات أكثر دينامية وترابطا إلى درجة تجعل سياسة عدم التدخل خيارا غير ممكن لأي قوة عظمى. لقد ازدهرت في السابق العزلة الأميركية في عصر كانت فيه السفن السبيل الوحيد لعبور المحيط الأطلسي، واستغرق الأمر أياما للقيام بذلك. أما في الوقت الحاضر، وفي زمن الصواريخ الباليستية وسلاسل الإمداد العالمية والإنترنت والحروب السيبرانية والهجرة المفتوحة من أجل الكفاءات، فإن الانسحاب شبه مستحيل، كما أن محاولة فرضه عنوة كما فعل ترامب تؤدي فعليا إلى تآكل قواعد القوة الأميركية عالميا.

لهذه الأسباب، ستظل الولايات المتحدة متورطة في غالبية الأزمات الخارجية حول العالم، من أوكرانيا إلى شرق آسيا والشرق الأوسط، وسيكون لبعض هذه الأزمات جانب عسكري قد يتطور لحرب مع قوى متوسطة أو ربما عظمى. ويعني كل ذلك في الأخير أن العالم مقبل على منعطف تاريخي جذري، فلطالما كان الصراع بين الإمبراطوريات -قديما وحديثا- مأساويا في أغلب مراحله ونتائجه أيضا، وبانهيار إحدى الإمبراطوريات أو أكثر، سرعان ما تعُمّ الفوضى، ويصبح العالم مُبهَما، ويقل تيقُّننا من مستقبلنا السياسي والاقتصادي داخل بلداننا التي لم يعد ممكنا فصلها عن محيطها الإقليمي والدولي.

إن انهيار أي إمبراطورية، أو تراجع أي قوة عظمى، مهما بدا خبرا سعيدا لكارهي تلك القوة أو الدولة الكبرى؛ ينتج فوضى واسعة النطاق. وبينما يبدو أن قوة واشنطن وبكين قادرة على الصمود لبعض الوقت، فإن الأفول شبه المؤكَّد لروسيا صاحبة الاقتصاد الصغير والجيش المتعثِّر في أوكرانيا، يعني أن مآلات أفول روسيا ستظهر أولا، لا سيَّما في محيطها، شرق أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى، وهو ما نشهده بالفعل بتزايد الحروب والصراعات في الفضاء السوفيتي. بيد أن مآلات أي تراجع أو تعثر داخل الولايات المتحدة والصين، لا سيَّما إن استمرت وتيرة السياسة العدائية للبلدين تجاه بعضهما بعضا، ستكون أوسع نطاقا وأكثر كارثية، وكون العالم متجها نحو فوضى القوة المتوسطة وتراجع القوى الكبرى أم عائدا إلى الثنائية القطبية الأميركية-الصينية، هو أمر ستكشف عنه قادم الأيام.

 الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى