مقالات

كارثة العقبة: ما بين الموت وتعزية النفس بحسن الطالع

 

التاج الإخباري – بقلم : د. إبراهيم صالح الطراونه
 
مؤلمٌ ومحزنٌ جداً ما حدث في العقبة، ثلاث عشرة ضحية انتقلوا الى جوار ربهم، لهم الرحمة ولعائلاتهم أصدق العزاء، والمئات من المصابين الذين يعلم الله وحده بأحوالهم الصحية ومدى تاثير تعرضهم لغاز الكلورين على أحوالهم الصحية وحياتهم في المستقبل. لم تنتهي المعاناة لبعض المصابين وربما لن تنتهي أبدا لبعض هذا البعض. بذلك وللتذكير، فإن تداعيات كارثة العقبة، لم تنتهي بانتهاء التحقيق وإعلان نتائجه.
وأثناء وبعد الكارثة، تنفس الأردنيون مسؤلون رسميون ومواطنون الصعداء، ذلك أن إتجاه الريح لم يكن بإتجاه المدينة وقت حدوث الكارثة وأن غالبية موظفي الميناء كانوا قد غادروها قبل سقوط الفأس في وسط الرأس. وحمدنا الله وشكرناه على حسن الطالع، وخلال ذلك وبعده شكرنا وأعلنا فخرنا بسرعة وكفاءة الأجهزة المختصة في تعاملها مع الكارثة. ومما لاشك فيه أن من بيننا ثلة طيبة من الشجعان والشجاعات ممن يستحقون الشكر لتحملهم ما يفوق طاقاتهم ومسؤولياتهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وسط مشهدٍ لا يمكن وصفه إلا بالكارثي. وفي الحال، تم تشكيل لجنة تحقيق والتي أصدرت نتائج تحقيقها وأحالت ملفاتها الى الإدعاء العام في غضون أيام. وبهذا، لا ندري هل انتهى التحقيق في هذه الكارثة أم ان هناك نية لإجراء تحقيق فني شامل ومتكامل لتحديد جميع مسببات الكارثة وطرق معالجتها حتى لا تحدث كوارث مماثلة في المستقبل في أي مكان اخر سواء في موانئ العقبة أو في أي منشأة يتم التعامل فيها مع مواد خطرة على اختلاف درجات خطورتها. ولكي يكون مثل هذا التحقيق الفني مكتملاً، فيجب أن يشمل تقييماً علمياً وموضوعياً لمدى استعداد وتعامل أجهزة الاستجابة للطوارئ بما فيها الإسعاف والمستشفيات وتقديم العلاج للمصابين قبل، واثناء الكارثة. كما يجب ان يشمل تقييم جميع أساليب ووسائل النقل والشحن والمناولة والتخزين للمواد الخطرة في موانئ العقبة. لذلك، يجب أن يشمل التحقيق تقييم حالة وصلاحية وصيانة وسلامة الخزانات المستخدمة في تخزين الكلورين وطرق تعبئتها ومناولتها لدى الشركة الصانعة للكلورين بالإضافة لتقييم سلامة طرق وأساليب وآليات نقل وتخزين ومناولة هذه الخزانات الى الميناء وفي داخلها. بمعنى آخر، يحب أن يشمل التحقيق كل ما يتعلق بصناعة وتعبئة وتخزين ونقل ومناولة الكلورين من نقاط البدء الى نقاط وصوله الى مقاصده داخل الأردن أو الى نقاط مغادرته لأي مخرج حدودي. وبالمثل فإن هذه الكارثة تستوجب تقييم طرق واساليب وآليات تعامل جميع الأطراف ذات المسؤلية فيما يتعلق بتصنيع ونقل ومناولة وتخزين أي مواد خطرة أخرى على اختلاف مستويات خطورتها.
كمتخصص في هذا الشأن، حينما رأيت الصور المتداولة للكابل (المدان بالتسبب بهذة الكارثة) لم أصدق انها حقيقية وأعتقدت بأنها صور مفبركة، إذ لا يعقل أن يستخدم كابل بهذه الحالة المتردية في ربط ورفع أي نوع من الأحمال في شركة بحجم وتاريخ شركة العقبة لإدارة وتشغيل الموانئ، إلا أنني وللأسف الشديد كنت مخطئاً. وعلى الرغم من أن استخدام كابل بهذه الحالة المتردية لربط ورفع أحمال من هذا النوع وهذه الخطورة خطيئة لا يمكن تجاوزها، إلا أنه من الممكن تفسيرها. والتفسير العام هو أن مستويات الاهتمام والتركيزعلى السلامة العامة والمهنية في شركة العقبة لإدارة وتشغيل الموانئ انحدرت لدرجة أن أصبحت كارثة من هذا النوع ممكنة الى أن تحققت.
كيف لمستوى السلامة العامة والمهنية في شركة بهذا الحجم والتاريخ أن ينحدر لهذا المستوى المتدني؟ من السهل توجيه أصابع الإتهام بالتقصير وتحميل المسؤولية لإدارة الشركة وبعض كوادرها وإدانة الكابل على وجه الخصوص، وانا بمعزل الدفاع عن أي منهم، إلا أن سوء الحال يبدو أكبر من ذلك بكثير، وأخشى أن تركيز المسؤولية في جهة محددة على أهميته وكفى الله المؤمنين شر القتال قد يغفل أعيننا عن حقائق في غاية الأهمية حول مستوى السلامة العامة والمهنية المتدني بشكل عام في الأردن. فهل سيكون هناك تحقيق فني شامل ومتكامل كما هو مطلوب ومتبع عند حدوث كارثة بهذا الحجم؟
للأسف الشديد إن هذا الإنحدارفيما يتعلق بمستويات السلامة العامة والمهنية لا يقتصر على شركة العقبة لإدارة وتشغيل موانئ العقبة، بل هو منتشرفي غالبية المنشآت الصناعية والمشاريع الإنشائية وغيرها من القطاعات على طول المملكة وعرضها والشواهد على ذلك كثيرة، ولنا من حادثة انقطاع الأكسجين في مستشفى السلط الحكومي دروس وعبر. يقابل ذلك كله سلوك مستهتر، يكاد أن يكون عاماً من قبل العمال والمواطنين، بأدنى متطلبات السلامة العامة والمهنية. ومن الواضح أن السلامة العامة والمهنية ليست في سلَّم أولوياتنا كمؤسسات حكومية وشركات خاصة ومواطنين أيضاً. اكبر الشواهد على ذلك هو ما نشاهده كل يوم من ممارسات مستهترة في قيادة السيارات في شوارع وطرق المملكة على طولها وعرضها. يقابل ذلك سلوك متعجرف من قبل الأغلبية في التعامل مع المخاطر التي يواجهونها أثناء ممارسة غالبية الانشطة اليومية. على سبيل المثال، يعد حزام الأمان في المركبات أفضل جهاز حماية تم ابتكاره في التاريخ، إلا أن غالبية الأردنيون يحجمون عن استخدامه لأسباب مفتعلة، وكأن استخدام حزام الأمان سينتقص من قيمتهم. لا يمر يومان دون أن أشاهد سائقا يقود مركبته وقد وضع طفلاً في حضنه، وهو يعلم أو لا يعلم بأن انشقاق الوسادة الهوائية للمركبة لأي سبب كان سيتسبب على الأغلب بقتل الطفل الذي يحتضنه.
واخيراً، يجب ألا تمر هذه الكارثة مرور الكرام كما مرت حوادث خطيرة مماثلة في سابق الأيام دون أن يكون لها أي تأثير يذكر في رفع مستويات تركيز واهتمام كافة أجهزة ومؤسسات الدولة ومعها القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني من نقابات ومنظمات عمالية وجمعيات ممثلة للشركات بالسلامة العامة والمهنية. وفاءً لضحايا ومصابي هذه الكارثة، ومن قبلها ضحايا كارثة إنفجار صوامع ميناء العقبة القديم في 14 أيار 2017، والذي ذهب ضحيته (رحمهم الله) سبعة من الشباب الذين تراوحت أعمارهم بين 20 و33 عاماً آنذاك، يجب أن تكون هذه الكارثة نقطة تحول في مدى تركيز واهتمام سلطات الدولة الثلاث ومعها القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني والمواطنين برفع مستويات السلامة العامة والمهنية في هذا البلد. وليتحقق ذلك، لا بد من إجراء تحقيق فني شامل ومتكامل حول مسببات هذه الكارثة ومعالجتها لمنع حدوث كوارث مماثلة في المستقبل.
نريد تحقيقا فنياً، شاملاً ومتكاملاً لنحدد ونعالج مدى القصور المتعلق بالتشريعات والأنظمة والتعليمات والإجراءات المتعلقة بالسلامة العامة والمهنية بشكل عام وفيما يتعلق بهذه الكارثة على وجه الخصوص.
نريد تحقيقا فنياً، شاملاً ومتكاملاً لنحدد ونعالج مدى القصورالمتعلق بقيام الجهات المسؤولة عن إنفاذ قوانين وأنظمة وتعليمات وإجراءات السلامة العامة والمهنية بواجباتها في التنفيذ.
نريد تحقيقا فنياً، شاملاً ومتكاملاً ليصور لنا حجم المأساة التي كنا سنعيشها لو أن الكارثة حدثت قبل مغادرة أغلبية الموظفين للميناء وكانت حركة الرياح باتجاه المدينة، وأن يظهر لنا أن حسن الطالع لن يلازمنا في كل حادثة.
نريد تحقيقا فنياً، شاملاً ومتكاملاً لإظهار أن هذه الكارثة ما كانت لتحدث لو أن قوانين وأنظمة وتعليمات السلامة العامة والمهنية وآليات وإجراءات تنفيذها كانت بالمستوى المطلوب لمثل هذا النوع من الأنشطة والعمليات.
نريد تحقيقا فنياً، شاملاً ومتكاملاً لنعلن للجميع بأن السلامة العامة والمهنية هي أولوية للجميع ومسؤولية الجميع وأننا لا نقبل لمثل هذا النوع من الكوارث بأن يتكرر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى