مقالات

الدباس يكتب: حين تغادر العقول

التاج الإخباري – بقلم: هاني الدباس

ظاهرة هجرة العقول من الأردن لم تعد مجرد قصص فردية تروى على استحياء، بل تحولت إلى أزمة وطنية تتطلب وقفة جادة. تشير الإحصاءات إلى أن نسبة البطالة بين الشباب تجاوزت 22%، فيما تفيد تقارير البنك الدولي بأن نحو نصف الشباب العرب يفكرون بالهجرة، والأردنيون جزء فاعل من هذه النسبة. ما نشهده ليس مجرد هجرة بحثًا عن عمل، بل نزوح جماعي بحثًا عن الاعتراف والفرص والإمكانات.

ومع ذلك، فإن المشهد، مهما بدا مظلمًا، لا يخلو من بارقة أمل. فقد علمتنا التجارب أن الدول التي مرت بظروف مشابهة تمكنت من تحويل مسارها حين آمنت بقدرة الإنسان على صناعة الفارق. سنغافورة، التي كانت في الستينيات تفتقر لكل المقومات الاقتصادية، اختارت أن تستثمر في التعليم والابتكار، فنهضت لتصبح منارة اقتصادية وعلمية. الإمارات رسمت نموذجًا جديدًا لجذب المبدعين عبر سياسات واضحة وداعمة، حتى أصبحت قبلة العقول من مختلف أنحاء العالم. كندا أعادت بناء اقتصادها على أساس احتضان العقول المهاجرة، فقفز ناتجها المحلي مع كل عقل اجتذبته أرضها.

الأردن، رغم كل التحديات التي يواجهها، يمتلك ما يؤهله ليكون قصة نجاح مماثلة. هذا البلد الصغير يملك طاقة بشرية كبيرة، وعقولًا مبدعة برهنت مرارًا على تفوقها محليًا وعالميًا. يتمتع الأردن ببنية تعليمية عريقة، وشبكة علاقات دولية واسعة، وموقع جغرافي حيوي، وبنية اجتماعية متماسكة رغم الضغوط.

ما ينقصنا ليس المواهب ولا الإمكانات، بل الإرادة السياسية والرؤية الواضحة التي تضع الكفاءات في صميم معادلة التنمية. نحن بحاجة إلى بيئة تشجع الريادة والابتكار، وتعيد بناء جسور الثقة بين الشباب ووطنهم، وتقدم نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا يحترم العلم والإبداع.

ولعل أجمل ما يمكن قوله إن قصص النجاح موجودة بيننا بالفعل. شباب أسسوا شركات ناشئة من قلب عمان إلى مدن الأطراف، وأكاديميون أردنيون حصلوا على جوائز عالمية رغم كل الصعوبات، ورواد أعمال أعادوا تعريف النجاح المحلي على مقاييس عالمية. هذه النماذج تثبت أن النجاح ممكن، وأن الأردن قادر، إذا اختار أن يستثمر بذكاء في رأس ماله البشري.

المعركة اليوم ليست فقط على توفير وظائف أو تحسين رواتب. المعركة الحقيقية تدور حول صناعة الأمل، وإعادة الإيمان بأن الحلم الأردني لا يجب أن يُهاجر مع حقائب الشباب. إذا أردنا مستقبلًا مختلفًا، علينا أن نحتضن أحلام أبنائنا ونرعاها، لأن الأوطان لا تبنى بالحجارة فقط، بل بالأفكار التي تصنع الحجارة ذاتها.
الأردن قادر. وقادر أكثر حين يضع أبناءه في مقدمة أولوياته، وحين يحول العقول من مهاجرين إلى بناة، ومن راحلين إلى رواد مستقبل يليق بهم وبوطنهم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى