الرواشدة يكتب.. “الشيك والكمبيالة”.. والجدال حول صحة حبسهما

التاج الإخباري – بقلم المحامي الدكتور مصطفى خالد الرواشدة
هل يعتبر الشيك او الكمبيالة من قبيل الإلتزامات التعاقدية ويسري عليها ما جاء في قانون التنفيذ الأردني أنه لا يجوز الحبس على الإالتزامات التعاقدية؟
هذا التساؤل يطرح يوميا بكثرة في أروقة المحاكم ما بين الممارسين في ساحة العدالة وعامة الشعب.
وأجيب بعد التمحيص والمطالعة لفترة طويلة بحيث يتلقى القارئ اجابة دقيقة وعلمية وقانونية، وحتى يتسنى لنا انهاء هذا الجدل نبدي حول هذا التساؤل ما يلي:
هل يعتبر أي من الشيك أو الكمبيالة من الالتزامات التعاقدية؟ دراسة علمية قانونية فقهية قضائية مقارنة.
المقدمة
يعد الشيك والكمبيالة من أهم الأدوات المالية المتداولة في المعاملات التجارية، حيث يلعبان دورا محوريا في تسهيل المدفوعات وضمان الالتزامات المالية. يثور التساؤل حول ما إذا كان أي منهما يُعتبر التزاما تعاقديا، أي أنه ينشأ عن عقد بالمعنى القانوني الدقيق، أم أنه التزام قانوني مستقل عن الإرادة التعاقدية للأطراف؟ للإجابة على هذا التساؤل، لا بد من دراسة طبيعة هذه الأوراق التجارية من منظور الفقه القانوني، والتشريعات المقارنة، والاجتهادات القضائية.
أولاً: ماهية الالتزام التعاقدي
- تعريف الالتزام التعاقدي
الالتزام التعاقدي هو ذلك الالتزام الذي ينشأ عن اتفاق بين طرفين أو أكثر، بحيث يتم تحديد الحقوق والواجبات وفقا لإرادتهم المتطابقة. ويتميز الالتزام التعاقدي بالعناصر التالية:
١- وجود إرادتين متطابقتين (إيجاب وقبول).
٢- محل الالتزام (شيء معين أو أداء عمل).
٣ـ سبب مشروع (أساس قانوني لوجود الالتزام). - التمييز بين الالتزامات التعاقدية وغير التعاقدية
هناك عدة أنواع من الالتزامات التي لا تستند إلى العقد، مثل:
١- الالتزامات الناشئة عن القانون: كالتزام الوالد بالإنفاق على أبنائه.
٢ـ الالتزامات الناشئة عن الإرادة المنفردة: مثل الوعد بجائزة.
٣- الالتزامات الناشئة عن المسؤولية التقصيرية: كالتعويض عن الأضرار الناجمة عن الإهمال أو الفعل غير المشروع.
ثانياً: طبيعة الشيك والكمبيالة من منظور الالتزام التعاقدي
- الشيك والتزاماته القانونية
الشيك| هو صك محرر وفقا لشروط قانونية، يتضمن أمرا من الساحب إلى المسحوب عليه (البنك) بدفع مبلغ معين لحامله أو لمستفيد معين.
ووفقا للقوانين التجارية في العديد من الدول، فإن الشيك أداة وفاء وليس أداة ائتمان، أي أنه مستحق الدفع عند الاطلاع. كما لا ينشأ الشيك عن عقد بين الأطراف الثلاثة (الساحب، المسحوب عليه، المستفيد)، بل هو التزام قانوني مجرد.
كما أن تسليم الشيك لا يعني وجود عقد بين حامله والمسحوب عليه (البنك)، بل هو التزام قانوني ناشئ عن إصدار الشيك وفقًا لأحكام القانون التجاري.
→ النتيجة: الشيك ليس التزاما تعاقديا لأنه لا ينشأ عن توافق إرادتين، بل هو التزام قانوني مستقل عن العلاقة التعاقدية الأصلية التي أدت إلى تحريره.
- الكمبيالة والتزامها التعاقدي
الكمبيالة، بخلاف الشيك، هي أداة ائتمان، أي أنها تتضمن وعدًا بالدفع في تاريخ مستقبلي معين.
تتكون الكمبيالة من ثلاثة أطراف: الساحب، والمسحوب عليه، والمستفيد.
ينظر إلى الكمبيالة في كثير من النظم القانونية باعتبارها عقدًا شكليا، حيث يجب أن تتوافر فيها بيانات إلزامية لكي تكون صحيحة ونافذة.
فععلى الرغم من أنها نشأت في الأصل كأداة مدنية، فإنها أصبحت تعامل كالتزام مستقل ومجرد عن العلاقة الأصلية التي أدت إلى إنشائها.
→ النتيجة: الكمبيالة، على الرغم من أنها قد تنشأ عن علاقة تعاقدية، إلا أنها لا تعتبر التزاما تعاقديا.
بالمعنى الدقيق، لأنها بمجرد إنشائها تصبح التزاماتها مستقلة عن العقد الأصلي، وتخضع لقواعد الصرف التجاري وليس للقواعد العامة للعقود.
ثالثاً: الفقه القانوني في تكييف الشيك والكمبيالة
ذهب الفقه التقليدي إلى أن الشيك والكمبيالة التزامان منفصلان عن العقود الأصلية، حيث يتمتعان بالصفة التجريدية، أي أن الالتزام الذي ينشآن عنه لا يرتبط بالسبب الأصلي الذي أدى إلى إنشائهما.
كما يرى بعض الفقهاء أن الكمبيالة يمكن أن تكيف كعقد، نظرا لأنها تقوم على التزام قانوني بين أطرافها، ولكن هذا لا ينفي طبيعتها المستقلة بمجرد إنشائها، الا ان الفقه الفرنسي والإنجليزي دحض هذا الرأي واعتبره مفسد للطبيعة القانونية للاوراق التجارية وبالتالي لم يأخذ به اي من الفقه او حتى التشريعات الدولية.
كما أن الفقه المقارن في القانون الفرنسي والمصري والإنجليزي يؤكد أن الشيك أداة وفاء وليست أداة ائتمان، مما يعزز كونه التزاما قانونيا وليس تعاقديا، في حين أن الكمبيالة تعامل كالتزام شكلي منفصل.
رابعا: الاجتهادات القضائية المقارنة
- الاجتهاد القضائي الفرنسي
قررت محكمة النقض الفرنسية أن الشيك ليس التزاما تعاقديا بين الساحب والمستفيد، بل هو التزام قانوني خاضع لقواعد الأوراق التجارية. حيث اعتبرت نفس المحكمة أن الكمبيالة تنشئ التزاما مجردا ومستقلا، حتى لو كان مستندا إلى علاقة تعاقدية سابقة.
- الاجتهاد القضائي المصري
قضت محكمة النقض المصرية بأن الشيك لا يعتبر عقدا، وإنما هو التزام قانوني يترتب على تحريره وتسليمه للمستفيد، بغض النظر عن العلاقة السابقة بين الأطراف.
فيما يخص الكمبيالة، أكدت المحكمة أنها أداة ائتمان مستقلة، وأن قبول المسحوب عليه لها لا يترتب عليه علاقة تعاقدية بينه وبين المستفيد،وبالتالي لا يعتبر التزام تعاقدي.
- الاجتهاد القضائي الإنجليزي
يتبنى القانون الإنجليزي نفس الاتجاه، حيث يعامل الشيك كالتزام قانوني مجرد.
وبالنسبة للكمبيالة، فإنها تعتبر عقدًا شكليا لكنها تخضع لقواعد الأوراق التجارية التي تجعلها التزامًا منفصلًا عن العقد الأساسي.
خامساً: التحليل المقارن والاستنتاجات
الشيك ليس التزاما تعاقديا لأنه لا ينشأ عن إرادة متبادلة بين الأطراف، بل هو التزام قانوني ناشئ عن تحريره وفق القانون.
الكمبيالة، رغم نشأتها عن علاقة تعاقدية، تعتبر التزاما شكليا مستقلا، مما يجعلها أقرب إلى الالتزامات القانونية منها إلى الالتزامات التعاقدية.
الاجتهادات القضائية والفقه القانوني في مختلف النظم القانونية تتفق على أن الأوراق التجارية تتمتع بالصفة التجريدية، مما يفصلها عن العقود الأصلية التي أدت إلى إنشائها، وبالتالي لا يمكن اعتبارها التزاما تعاقديا.
بناءً على ما سبق، جزما الشيك والكمبيالة لا يعتبران من الالتزامات التعاقدية بالمفهوم التقليدي للعقود، بل هما التزامان قانونيان مستقلان يتمتعان بصفة التجريد، مما يجعلهما منفصلين عن العلاقات التعاقدية السابقة التي أدت إلى إنشائهما. هذا الاتجاه يعزز الاستقرار في المعاملات التجارية ويضمن سرعة تداول الأوراق التجارية دون الحاجة للرجوع إلى طبيعة العلاقة الأصلية بين الأطراف.