قدومي تكتب.. معاوية بين سيناريو الفن ورواة الفتوى… دراما الحلال والحرام

التاج الإخباري – بقلم فرح قدومي
يبدو أن التاريخ العربي كُتب عليه ألا ينام قرير العين، فحتى بعد قرون من دفنه بين دفتي كتب السير والمجلدات الصفراء، يعود ليشعل معارك جديدة… هذه المرة ليس بين الجيوش والسيوف، بل بين السيناريست ورواة الحديث، بين عدسات الكاميرا ومنابر الإفتاء.
مسلسل “معاوية” لم يُمنح حتى فرصة رفع شارة البداية، حتى وجد نفسه في قفص الاتهام بتهمة إثارة الفتنة والإساءة للرموز الإسلامية.
الغريب أن الهجوم لم يتركز على جودة النص، أو أداء الممثلين، أو جرأة الطرح… بل على فكرة عرض المسلسل أصلًا، وكأن الشاشة أصبحت مِحرابًا للصلاة، لا يجوز أن يعبر خلالها إلا ما يحمل ختم الموافقة الشرعية.
فتاوى انتقائية
اللافت في هذا الجدل أن موجة التحريم تبدو انتقائية بامتياز. فالمسلسل الذي يعيد قراءة مرحلة حساسة من التاريخ الإسلامي استحق هجومًا كاسحًا قبل عرضه، بينما تمر عشرات الأعمال التي تمجد الخمر والمخدرات والراقصات كأنها برامج ثقافية تنمي الوعي المجتمعي!
لم نسمع عن فتوى تحرم دراما المخدرات، أو المسلسلات التي تجعل من حكايات البارات قصص حب ملحمية… لكن عندما يتعلق الأمر بسيرة شخصية تاريخية، يتحول الفن فجأة إلى تهديد مباشر لقيم الأمة.
سرد سيرة معاوية يحتاج إلى إجازة شرعية من هيئة كبار العلماء، بينما قصص الخيانة والمخدرات لا تخضع إلا لمقص الرقابة الفنية.
معاوية في مرمى الإفتاء… قبل العرض
اللافت أن معظم الفتاوى صدرت قبل أن يشاهد أصحابها حلقة واحدة… وكأن العمل الفني أصبح مذنبًا حتى تثبت براءته. البعض اكتفى بقراءة ملخص العمل قبل العرض، وآخرون أصدروا حكمهم بناءً على اسم المسلسل فقط.
نحن أمام نسخة جديدة من “السينما النظيفة”، حيث تصبح الشخصيات التاريخية خطوطًا حمراء، بينما مشاهد الرقص والخيانة مجرد رؤية درامية.
فهل المطلوب أن يظهر معاوية في ثوب الرجل الصالح يرتل القرآن بين المعارك؟ أم أن يُرسم على طريقة الدراما الحديثة، يقضي وقته بين شرب النبيذ في قصور الشام؟
التحريم… أعلى درجات التسويق
التاريخ أثبت أن تحريم أي عمل فني هو أفضل خطة تسويقية ممكنة. مسلسل “معاوية” كان من الممكن أن يمر مرور الكرام وسط زحام الإنتاجات الرمضانية، لكن بفضل فتاوى “التكرم بعدم المشاهدة”، أصبح العمل حديث الساعة قبل عرض الحلقة الأولى.
من “الرسالة” إلى “المسيح” إلى “عمر بن الخطاب”… كلما حاولت الفتاوى دفن الأعمال الفنية، خرجت لتحصد ملايين المشاهدات.
يبدو أن بعض الدعاة لم يدركوا بعد أن الجمهور العربي يعشق المحرمات أكثر مما يعشق الفنون… وكل مسلسل ممنوع يتحول إلى عمل الموسم، وكأن الفتوى في عصرنا أصبحت أهم من البوستر الترويجي!
التاريخ ليس نصًا مقدسًا
الدراما ليست درسًا دينيًا، بل قراءة فنية… والتاريخ نفسه ليس نصًا مقدسًا، بل روايات متناقضة كتبها المنتصرون.
ما يحدث اليوم ليس دفاعًا عن الصحابة، بل محاولة لتكميم كل قراءة جديدة للتاريخ. كأننا مطالبون بأن نعيد سرد الحكايات كما كتبها رواة الحديث في عصر لم يعرف السينما ولا الفن.
ربما لو عاش معاوية بيننا، لاكتفى بضحكة ساخرة على هذا الجدل… وربما طلب من صناع العمل أن يجعلوه “شهيد الفتوى” بدلًا من أمير المؤمنين!
متى يتقاعد المفتون عن الفن؟
السؤال الذي يطارد كل عمل تاريخي:
هل أصبحت الدراما بحاجة إلى إجازة شرعية قبل أن ترى النور؟
وإذا كان التاريخ كله مادة ملغومة لا يجوز الاقتراب منها، فهل سنكتفي بدراما المخدرات والملاهي الليلية؟ أم أن سيف الفتوى سيظل مسلطًا على الأعمال الجادة فقط؟
معاوية لم يخسر معاركه في حياته… لكنه يبدو عاجزًا عن النجاة في عصر رواة التريند، الذين لا يملكون سوى سلاح التحريم لمواجهة ما لا يعجبهم.
ويبقى السؤال معلقًا:
من يكتب التاريخ اليوم… كاتب السيناريو أم صاحب الفتوى؟