الإجابة الواحدة: الكارثة التي لا يراها أحد

التاج الإخباري – بقلم: د مارغو حداد
في زمنٍ مضى، كنا نسأل، فتتعدد الأجوبة، كأن الحقيقة تتوالد من احتمالات لا نهائية، كمرآة تنكسر إلى ألف قطعة، فيرى كل منا زاويته الخاصة. لم تكن هناك حقيقة واحدة، بل أصوات تتقاطع، وأفق لا ينغلق عند باب واحد.
كنا نكتب سؤالًا في Google، فتنهال علينا الأجوبة كالمطر، كل قطرة تحمل وجهة نظر، كل رأي يفتح بابًا جديدًا للتأمل، للحيرة، للشك الذي يصنع وعينا، للبحث الذي يبني يقيننا الهش. كنا نملك ترف الاختيار، نملك وهم الحقيقة المتعددة، نملك حرية أن نكون مخطئين.
لكن الزمن تغيّر.
اليوم، نسأل GPT، فيأتينا جواب واحد. لا مجال للشك، لا مجال للتساؤل، لا مجال للحوار. الجواب حاضر، كامل، نهائي. كأن آلةً ما قررت نيابة عنا، كأن عقولنا استقالت من مهمتها، كأننا لم نعد بحاجة إلى التفكير، بل فقط إلى التلقي.
ما الذي يحدث؟
في البداية، لا أحد يشعر بالخطر. فالإجابة أسرع، وأوضح، وأكثر تنظيمًا. لا حاجة للغرق في مئات الصفحات، لا حاجة للبحث في المصادر، لا حاجة لإرهاق العقل بالتساؤل. لكن شيئًا فشيئًا، تتسرب العادة إلى عقولنا. نبدأ بالاعتماد. نبدأ بالتصديق. نبدأ بفقدان الرغبة في السؤال.
تتحول الحقيقة إلى رقم واحد، رأي واحد، إجابة واحدة. لا تعدد، لا اختلاف، لا ضجيج صحي، لا احتمالات أخرى. كأن العالم أصبح مسطحًا من جديد، كأن آلاف السنين من الفلسفة والجدل والنقاش انتهت في لحظة، كأن الإنسان سلّم نفسه لآلة، ونام مطمئنًا.
لكن هل هذه هي الحقيقة؟ أم مجرد نسخة مختصرة مما يجب أن نراه؟
حين يصبح العقل تابعًا
الخطر ليس في الذكاء الاصطناعي، بل في الإنسان الذي يسلمه زمام فكره. في البداية، يستخدمه بحثًا عن إجابة، ثم يعتمد عليه، ثم يصدقه، ثم ينسى كيف كان يفكر قبله. وهنا تبدأ الكارثة.
ليس لأننا أصبحنا نعرف أكثر، بل لأننا توقفنا عن البحث. ليس لأننا اقتربنا من الحقيقة، بل لأننا فقدنا فضيلة السؤال. ليس لأننا أصبحنا أذكى، بل لأننا صِرنا أكثر قابلية للخداع.
هم فرضوا علينا أفكارهم وما يريدون أن نقوله نحن، لا ما نريد أن نفكر به. لاحظ كيف يسأل العالم السؤال نفسه، فيحصل الجميع على الإجابة ذاتها. إذاً، نحن لا نفكر، بل نُبرمج من خلال هذه الإجابة، وفق أفكارهم هم، لا وفق وعينا نحن. لا انفتاح، لا تعدد، لا اختلاف، بل رأي واحد، فكر واحد، إجابة واحدة. يريدون أن يقودونا إلى فكر محدد يخدمهم هم فقط. يجب أن نحذر من هذا الاستعمار الجديد، الذي لا يحتاج إلى قوة، بل إلى خوارزمية تحكم عقولنا دون أن نشعر.
عندما يصبح العقل تابعًا، يفقد الإنسان جزءًا من إنسانيته. وعندما يؤمن أن هناك إجابة واحدة فقط، يصبح أضعف مما يتخيل.
إلى أين نحن ذاهبون؟
لا أحد يعرف. ربما نحن على أعتاب عصر أكثر ذكاءً، وربما نحن على أبواب ظلام جديد، حيث يعتقد الجميع أنهم يعرفون، لكن لا أحد يفكر حقًا. حيث تتحول المعرفة إلى شيء جاهز، معلب، لا يحتاج إلى جهد، لا يحتاج إلى شك، لا يحتاج إلى وعي.
في الماضي، قالوا: الحقيقة بنت البحث. واليوم، يريدون لنا أن نؤمن بأنها بنت الخوارزمية.
وأقول: إذا صارت الإجابة واحدة، مات السؤال، وإذا مات السؤال، مات الإنسان.