المجالي يكتب.. “الدولة العميقة”
التاج الإخباري – بقلم عبدالهادي راجي المجالي
تحدثت العين سهير العلي أمس على شاشة المملكة مع الزميل عامر الرجوب عن الدولة العميقة , ودعت إلى اتفاق بين الدولة العميقة في الأردن والدولة العميقة في أمريكا , لم أفهم طرحها جيدا ولكن لنتوقف عند المصطلح قليلا …وليسمح لي رئيس التحرير أن أقدم رأيا في هذا الموضوع , وهو لايستند لفكرة شخصية بقدر ما يستند لجهد بحثي.
أول ما ظهر مفهوم الدولة العميقة كان في إيطاليا زمن (الدو مورو) , وقد اتهمت الدولة العميقة هناك باغتياله , حين طرح مشروعه العظيم المرتبط بتسوية مع الحزب الشيوعي الإيطالي الذي حصل على ثلث مقاعد أعضاء مجلس النواب في الإنتخابات التي جرت, وسمي فيما بعد التسوية التاريخية و كانت تنص على إدخالهم أو إشراكهم في الحكم ..في فترة كانت أوروبا تضج من الأحزاب الشيوعية فيها وتسعى لوأدها …لكن (الدو مورو) تم اغتياله واتهمت الدولة العميقة بذلك , والسؤال من هي الدولة العميقة في إيطاليا والتي اغتالت (الدو مورو) ؟..أولا : هي طبقة المافيا التي كانت قد اخترقت أجهزة الأمن والشرطة والقضاء ..وهذه الطبقة وجدت في هذا المشروع خطرا على امتيازاتها ثانيا : هي مجموعات من العسكرتاريا ورجالات البوليس السري والتي أنتجت تحالفا مع طبقة المافيا ..ووظفت القرارات لصالحها وعطلت القضاء …ثالثا الإرتباط الخارجي لمجموعات من رجال الأعمال والسياسة بالمشروع الأمريكي الإستخباري المتمثل (بالسي اي ايه) والذي كان يسعى إلى إبقاء إيطاليا ضمن منظومة الناتو وعدم تسلل الشيوعية لها …تحالف هذه الطبقات الثلاث , أدى إلى اغتيال العقل والمفكر الإيطالي وأحد أهم أساتذة القانون في جامعة روما ..ولو قرأتم رسائله من المعتقل , لعرفتم كيف أشار لهذه الطبقات …واتهمها علانية بقتله.
ترسخ مفهوم الدولة العميقة بعد أكثر من (35) عاما على اغتيال (تورغيت أوزال) رئيس الوزراء التركي …وهذا الرجل كان له مصلحة ووجهة نظر في إنهاء المسألة الكردية , التقارير التي ظهرت فيما بعد والتي نشرت الجزيرة برنامجا مفصلا عنها تؤكد أن الرجل مات مسموما ولم يمت بالجلطة القلبية , لأن ثمة فئات من الداخل وبالتحديد من أصحاب النفوذ في الدولة …كانوا يريدون استمرار الأزمة الكردية وعدم طيها , في تلك الفترة لم تكن تركيا قد خرجت من قبضة الجيش ..وحتى الأمريكان لم يكن لهم مصلحة في الأمر , لأن تحالفهم كان مع طبقة العسكر والتي أمنت للناتو حضورا كبيرا ..على حدود تركيا مع الإتحاد السوفيتي , ووفرت لهم قواعدها الجوية كان يعنيهم أكثر من التحالفات مع (اوزال) ..لهذا اجتمعت مصلحة العسكر ومصلحة تجار السلاح ومصلحة من استفاد من تفاقم الأزمة مع حزب العمال الكردستاني ومصلحة (الس اي ايه) في التخلص من هذا الرجل …وقد تجلي مفهوم رجال الظل وقتها في أبهى صوره , وظهرت قوة المؤسسة العسكرية التي طغت على المؤسسة السياسية.
اغتيال ضياء الحق في باكستان كان شبيها أيضا بما حدث في تركيا وإيطاليا ..فالدولة العميقة , المتمثلة بالأدوات التي أنتجت طالبان والسياسة الأمريكية الخارجية ..وتململ بعض رجالات الجيش , كلهم شكلوا قرارا وتم تنفيذه.
الدولة العميقة تعني غياب الدستور ..تعني نفوذ رأس المال , وتعني القبضة الأمنية وتعني أيضا أن يسير السياسي خلف العسكري , وتعني أيضا المصالح الفردية وتعني أيضا النفوذ الإستخباراتي للدول الأخرى ..تعني أيضا طغيان المصالح لدولة عظمى مثل أمريكا على الشأن الوطني …
الأردن لايوجد فيها دولة عميقة , يوجد دستور واضح ..يوجد نظام قوي راسخ يحكم ضمن الدستور وضمن ما منحه هذا الدستور من صلاحيات , ويوجد بها مؤسسات أمنية تمثل أعلى درجات الإنضباطية ولا تخرج عن أوامر الملك والسلطة التنفيذية …
حين نستعمل مصطلحات معينة في خطابنا السياسي علينا أن نقرأ ولو قليلا من التاريخ , علينا أن نثقف أنفسنا …علينا أن نقرأ التجربة السياسية التركية , تجربة إيطاليا ورسائل (الدو مورو) التي شرحت المؤامرة وكشفت معنى ومفهوم الدولة العميقة ..علينا أن نقرأ ولو القليل عن اغتيال (جون كينيدي) وهل هذا الإغتيال يأتي في سياقات وجود دولة عميقة في أمريكا , أم أنه اتخذ بقرارات فردية …علينا أن نمر قليلا على طبائع الإستبداد لعبدالرحمن الكواكبي ونفهم كيف يتم صناعة الطغاة في هذا العالم , ولو أن معاليها قرأت القليل من صراع محمد عابد الجابري وجوروج طرابيشي في الموروث العربي وأزمته , وهل سببه الشرق أم الغرب ..لما استخدمنا مثل هذه المصطلحات ..لو أننا قرأنا ثلاثية الحكم التي تشكلت في بواكير الدولة العباسية والأموية والتي تقوم على (العقيدة القبيلة الغنيمة) لما استعملنا مصطلحات ..لا نعرف خلفيتها ومعناها ..
الدولة العميقة مصطلح يعني : العصابة ..يعني : المافيا ..,كل الدول العميقة التي نشأت في القرن الماضي كانت خلفها يد (السي اي ايه) …لهذا علينا التروي قليلا في استعمال مثل هكذا مصطلحات , لأن الأردن لايقرأ ضمن سياقات التنظير الأردن يقرا ضمن سياقات الواقع فقط .