مقالات

الزيود يكتب.. “أغنيات الجدات والامهات .. السرّ البهيّ”

التاج الإخباري – بقلم الدكتور محمد عبدالكريم الزيود

كل أغنية أو ترويدة أردنية تجذبنا بلا دعوة ، تنادينا ويفرح القلب لهذا الصوت ، ربما هناك مناديا في داخلنا يلامسه هذا البهاء .. كما يقول خالد دودين : “كل أغنية تراثية هي رواية مضغوطة بسطر ، أو حكاية عتيقة لا تسرد تحت الثريات بل في البرّ”.

نعم الأغنيات التراثية الأردنية ، المجبولة بموسيقى معتقة بصوت الينابيع والعصافير ، شجية مثل صوت المهابيش وقت الفجر ، وربما حزينة مثل ناي وحيد ، تشقّ ألحانه صمت البساتين والحواكير وموارس القمح.

كيف يصطف الرجال في السامر ، تتعالى حناجرهم بالهجيني ، ثم من بعيد على الطرف الآخر من بيت الشعر ، تنسكب أصوات النسوة من خلف ” المحرم” تراوديهن في قطعة موسيقية لم تدخل بها الأدوات بعد ، أما الزغاريد فتلك حكاية أخرى إحتار كاتب اللحن كيف تأتي في وقتها في حركة منضبطة تشكل معها سمفونية أردنية خالدة.

من أغاني التروايد في الأعراس الأردنية وهي خاصة بالنساء :

“وسع الميدان يـــــا بي ولــــــــــد وسع الميدان والفرحة للصبيان والعز لك والفرحة للصبيان”
ومنها أيضا :

“رحبي بضيوف أبوكي يا عروس يا أم الإسوارة
يا هلا بضيوف أبوي لو كانوا ألف وميّة”
وكذلك :

“لمّي لمّي وشيديلي مخداتي
طلعت من البيت وما ودعت خيّاتي “
منذ فترة أتابع الموسيقار الأردني الشاب رعد الزبن ، السرّ الإبداعي لديه يكمن في إعادته لدراسة وتسجيل التراث الأردني من الموسيقى والأغاني ، ما الذي يجعل هذا البدوي ابن قبيلة بني صخر أن يهتم في إعادة تسجيل أغاني الجدات والأمهات ، ويحمله مشروعا نحو العالمية ، ويتدارسه مع طلابه في المعهد الوطني للموسيقى.

في تقديمه لسمفونيته ” من حركة واحدة، البيان رقم ١٢” والتي أنجزها بمناسبة ذكرى معركة الكرامة يقول الزبن : “كانت أياديهم السلاح، وصيحاتهم الذخيرة، ففاضت أرواحهم مسكًا وكرامةً، على حدود وطنٍ مسيّج بالدّفلى والعسكر وزغاريد النشميّات…”،
كتب رعد الزبن سمفونية الشهيد وسمفونية القبة الحمراء وطولكرم والكرامة ، وكلها أسماء محفورة في عمق الروح الأردنية ، وكأني به وهو يقف أمام الأوركسترا يقودها بقلبه وليس بيديه ، وكأنه يصطف أمام سامر أهله ويحوشي بعباءته ويردد معهم الهجيني.

عندما تستمع لهذه القصيدة بالهجيني في مضافات قبيلة بني حسن ، وكأنها تروي قصة عشق ذهب أبطالها وبقيت أسمائهم وقراهم التي كانت شاهدة على تلك الحكاية :

“من بلعما ناحرن صروت
ومدوّر الزين يا فلاحة
نزلن بالحصب ثلاث بيوت
والكل منهن على ناحة
إستجرت بالله قبل ما فوت
من جور عيفة وتفاحة
هاتوا لعيفة ثلاث تخوت
وناموسةٍ فوق طراحة
المبسم يضوي تقل ياقوت
والجوهرة داخل الساحة”

لا أبيح سرّا أننّي مهتم بالأغنية الأردنية وقد جلست السنة الماضية مع الإعلامية رنا حداد وقلت لها أن الأغنية الأردنية كانت قصة وحكاية أردنية ، منبعها الإهزوجة التي تُغنى في الأعراس والأتراح، وكانت بيانا سياسيا للدولة الأردنية في الستينيات والسبعينيات .

يقول المايسترو رعد الزبن : أن سرّ تعلقنا بالتراث هو صوت جداتنا وأمهاتنا ، وأن الصوت التراثي الأردني النسوي ذاهب للإفول . لذا ذهب نحو إعادة تسجيل تلك الأغنيات والإهزوجات.

ونعلم أن القرى الأردنية شمالا نحو حوران وجنوبا نحو الحداء والسامر والهجيني في البادية ، ما زالت تزخر بملامح الهوية الأردنية المتمثلة بالأغنية والقصيدة والزيّ والقهوة والفروسية ،وهذا ما إتكئ عليه حبيب الزيودي في كلماته للأغاني الوطنية، وهي المفردة الشعبية التي لها وقعها في عقول الناس، وعندما تمرّ بلادنا بأي منعطف يرتد عقل الدولة بأجهزته الإعلامية نحو الملامح الحقيقية للناس ، وربما تشكّل فرح سمو الأميرة إيمان ولاحقا عرس سمو ولي العهد الحسين حالة من ” الفرح” الأردني الذي يعبّر عن حالة البلاد وهويتها الواضحة والأصيلة ، وشاهدنا ترفة العبيدات ونساء حرثا وهنّ يغنين بالتراويد والزغاريد وهنّ يستقبلن الأمير الحسين ، لابسات الثوب المطرز بقطبته الزاهية ، ويعتمرن الشماغ المهدب ، في لوحة ينتشي فيها الأردني ببلاده وملامحها .

ما زالت هذه الأغنية والتي تمثل لون الحداء ، ما زالت يشدوا بها الصغار والكبار في رقصة ” الجوفية”:

“يابو رشيدة قلبنا اليوم مجروح
جرح غميق وبالحشا مستظلي
جابوا الطبيب ومددوني على اللوح
قلت برخى لما عشيري يصلني “

ما أحوجنا أن نطور أغنيتنا المحلية لتعكس هويتنا الأردنية النابعة من موروث القرى وروح البداوة ، وأعرف أن هناك من حاول أن يعيد الألق لها أمثال الشعراء : رشيد زيد الكيلاني وحسني فريز، وسليمان المشيني وحيدر محمود، وحديثا حبيب الزيودي ونايف أبو عبيد وعلي عبيد الساعي وغيرهم، ومن الفنانين الذين إرتبطت الذاكرة بهم توفيق النمري وجميل وسلوى العاص ،واسماعيل خضر ، ومحمد وهيب، وروحي شاهين، وقبلهم سميرة توفيق وميسون الصناع وحديثا فارس عوض وعمر العبداللات ومتعب الصقار .

إنتبهت الدولة الأردنية مبكرا للأغنية المحلية وإعادة صياغة الأغنية التراثية، وقد سمعنا وقرأنا أن حابس المجالي ووصفي التل وصلاح أبو زيد ، كانوا يشرفون شخصيا على كتابة تلك الأغنيات، وحديثا لمسنا إهتمام عبدالرؤوف الروابدة وفيصل الفايز ، لما فيها من الأهمية وإرتباطها بالمشروع الوطني للدولة، والهوية الثقافية المميزة .

أعتقد أن إنتاج أغنية محلية واحدة مليئة بالقيم الطيبة للأردنيين ، من فروسية وشهادة وعسكرية وحرية وطيب وكرم وتعايش ، هي أفضل من مئة حزب سياسي، أو وزارة تنمية سياسية وشباب ، أو مبادرات وطنية بلا معنى ، وفي ظل إنتاج ثقافي وفني هزيل ، ومتعالي على المجتمع ولا يشبهه ، ويلاحق الربح التجاري هدفا له ، الأغنية المحلية التراثية المكونة من كلمات أصيلة وبسيطة ، ولحن عذب متكئ على موروث البدو والفلاحين ، هي مفتاح ثقافتنا وهي تختصر رسالة الدولة الأردنية في التسامح وحب الحياة وإحترام التنوع .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى