مقالات

منصور يكتب: يداوي الناس وهو عليل

التاج الإخباري – د. عاصم منصور 

التقيت قبل سنوات الكاتب وعالم النفس الأمريكي والبروفيسور في جامعة كولومبيا روبرت كليتزمان وكنت قد قرأت له كتابه المشهور "عندما يمرض الأطباء"؛ والذي يعرض من خلاله عصارة تجربة سبعين طبيبا قام بمحاورتهم لسبر غور مكنوناتهم النفسية وردات فعلهم على إصابتهم بأمراض جسدية ونفسية تصنف بأنها خطيرة.

هنالك مقولة متداولة بيننا معشر الأطباء مفادها أن الأطباء هم أصعب أنواع المرضى وذلك لعدم التزامهم، واهمالهم لصحتهم وللأعراض المبكرة للمرض؛ ناهيك عن بعض العادات الصحية السيئة المنتشرة بكثرة بينهم، لكن السؤال الذي حاول الكاتب الاجابة عليه: هل يجعل المرض منهم أطباء أفضل؟

لا شك أن المفعول السحري «للمريول الأبيض» يعطي الأطباء شعورا زائفا بالاستعصاء على المرض والمناعة ضده، حيث تغرس بذرة هذا الشعور في اللاوعي عند طلاب الطب منذ بواكير التعامل مع الجثث في قاعات التشريح؛ فيبدؤون بترسيم الحدود بينهم وبين الآخرين حيث المرض والموت.

يمر معظم طلاب الطب بمرحلة عابرة من توهم إصابتهم بجميع الأمراض التي يدرسونها ؛ لكن مع الوقت وازدياد ثقتهم بأنفسهم يبدؤون بالشعور أن هذه الامراض تصيب المرضى وليس الأطباء ؛ ويحاولون أن يضعوا حواجز نفسية بينهم وبين مرضاهم تمكنهم من الاستمرار في أداء مهنتهم النبيلة.

الأطباء في كتاب كليتزمان أناس عاديون وليسوا خارقين أو عصيين على المشاعر التي تنتاب أي مريض آخر، يعتريهم الضعف والغضب والاستسلام والرجاء؛ لكنهم يخرجون من التجربة أكثر تفهما للمرض وقربا من مرضاهم وتعاطفا مع معاناتهم، يهتمون بالتفاصيل الصغيرة والتي كانوا يظنونها تافهة من وجهة نظرهم كأطباء ؛ لكن تجربتهم خارج المريول الأبيض علمتهم ان العلاج لا يقتصر على حبة دواء أو مبضع جراح.

من ناحية أخرى يعرض لنا الكتاب المحاولات المستميتة لهؤلاء الأطباء المرضى للتشبث بدور الطبيب؛ وبالمساحة الضيقة من القوة والسيطرة التي تركها لهم المرض ولو من خلال محاولة تحكمهم بمرضهم الذاتي وتولي مهمة المعالجة الذاتية، وعدم طلب مساعدة الزملاء والعناد في عدم الالتزام بالتعليمات أو الانغماس أكثر في العمل.

قرأت في الكتاب رسالة للأصحاء منا ينقلها عن زملاء خبروا «العالم الآخر» والطرف الآخر من سماعة الطبيب، علها تسلط الضوء على تفاصيل صغيرة قد لا يكون هنالك داع لاختبارها من خلال التجارب الشخصية لنعي أهميتها وعلى ضرورة إعادة الاعتبار للجانب الروحي الذي فقدت المهنة الكثير منه في ظل طغيان المادة، كما قرأت فيه وصفا دقيقا لهشاشة النفس البشرية التي قد يتسلل اليها الغرور والشعور بالاستعصاء على المرض والموت والمعاناة؛ لكنها لا تلبث أن تنحني أمام طبيعتها البشرية الضعيفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى