مقالات

رجل الظل

التاج الاخباري- مهند أبو فلاح- تحل في الثامن و العشرين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر الحالي الذكرى السنوية الخمسون لاغتيال رئيس الوزراء الاردني الاسبق الشهيد وصفي التل و الذي مازال يشغل الرأي العام المحلي و يستحوذ على اهتمام شرائح واسعة من المجتمع العربي الاردني بعد نصف قرن على استشهاده لاسيما بين أوساط النشطاء السياسيين المعارضين الذين نظروا اليه كقدوة في نظافة اليد و الالتزام الاخلاقي و لكن احدا من الباحثين المختصين في سيرة هذا الرجل العصامي لم يتطرق الى التأثير البالغ الذي احدثته شخصية عربية فلسطينية في حياة وصفي و نعني به المرحوم موسى العلمي و الذي بوسعنا ان نقول ان الشهيد التل كان النسخة الشرق اردنية من هذا الرجل الفذ .

بعض الشخصيات تبقى الاضواء مغيبة عنها لاسباب كثيرة لا عد و لا حصر لها رغم الوظائف التي شغلتها و الظواهر الخارقة التي اسهمت في صناعتها و موسى العلمي الذي شغل مناصب رفيعة من قبيل السكرتير العربي الشخصي لارثر فاكوف المندوب السامي البريطاني في فلسطين خلال الفترة الممتدة من عام ١٩٣١ الى عام ١٩٣٣ قبل ان يشغل منصب المدعي العام في حكومة الانتداب البريطاني منذ مطلع العام ١٩٣٤ بحسب الكاتب الصهيوني شبتاي تيبت مؤلف كتاب ” بن غوريون و العرب ” .

دايفيد بن غوريون أول رئيس وزراء للعدو الصهيوني و الذي كان يشغل في ثلاثينات القرن الماضي منصب رئيس الوكالة اليهودية وصف العلمي بأنه ” أحد الزعماء العرب الذي لا يظهر علانية لانه موظف حكومي ، لكنه يقف من وراء السياسة العربية في فلسطين ” و هذا ما دفعنا لاطلاق تسمية رجل الظل عليه .

نقل شبتاي شيبت عن بن غوريون ايضا في رسالة بعثها الى حاييم وايزمان احد ابرز زعماء الحركة الصهيونية في حينها نعته لموسى العلمي ” بالرجل الذكي المستقيم الذي لا يمكن شراؤه بالمال ” ، كما ان العلمي معروف كشخصية عربية وطنية بحسب بن غوريون مما جعله في طليعة الشخصيات العربية التي فتح بن غوريون معها قنوات الاتصال عبر لقاء جرى بين الطرفين في يوم الثلاثاء ٢٠ آذار / مارس ١٩٣٤ في منزل العلمي الكائن في قرية شُرفات جنوب القدس .

وقائع هذا اللقاء نقل بعضا منها تيبت في كتابه الانف الذكر قائلا ” عندما التقى بن غوريون مع العلمي لم يكد يكمل قوله أن (( الحركة الصهيونية تحمل الخير و البركة لارض فلسطين و ان اليهود جاءوا ليطوروها و يرفعوا مستوى العامل العربي و السكان العرب بشكل عام )) حتى فوجيء برد العلمي يقول (( اننا نحن العرب نفضل ان تبقى هذه البلاد فقيرة و قاحلة مائة سنة اخرى ، حتى نستطيع نحن العرب ان نطورها بقوتنا الذاتية )) “.

عودة على ذي بدء فإن علاقة العلمي بالتل كانت وثيقة جدا و لا ادل على ذلك من زواج وصفي من طليقة العلمي سعدية كريمة حسين بيك الجابري احد ابرز زعماء الكتلة الوطنية السورية في حلب الشهباء و قد توطدت العلاقة على الصعيد المهني قبل ذلك اذ عمل وصفي في مكتب الاعلام العربي التابع لجامعة الدول العربية في لندن خلال اربعينيات القرن الماضي تحت امرة العلمي و لاحقا اصبح نائبا له في مؤسسة انڜأها هذا الاخير خصيصا لرعاية الايتام ممن فقدوا اباءهم خلال حرب فلسطين ١٩٤٨ بحسب محمد داوود عودة الشهير بأبي داوود العضو الاسبق في المجلس الثوري لحركة فتح في كتابه ” فلسطين – من القدس إلى ميونيخ ” و التي كانت تقوم بانشاء مزارع نموذجية ايضا في منطقة غور الاردن بتمويل من مؤسسة فورد الامريكية و يؤكد ابو داوود ان موسى العلمي لم يكن يكن اي ود للصهاينة بخلاف ما اشاعه خصومه المغرضون عنه قبل ان يقوموا بإتلاف هذه المزرعة قرب اريحا بتحريض من جهات اقل ما يقال بحقها انها ديموغاجية غوغائية .

ما تعرض له العلمي من حملات تشويه وصولا الى اغتيال شخصيته معنويا تعرض له التل ايضا وصولا الى تصفيته جسديا في ٢٨ تشرين ثاني نوفمبر ١٩٧١ و قد اقر ابو داوود احد زعماء منظمة ايلول الاسود في مذكراته الآنفة الذكر معقبا على اغتيال الشهيد وصفي قائلا ” عرفنا بسرعة ان وصفي التل اقترح يوم مقتله بالذات مشروعا على وزراء الدفاع العرب لاقامة جبهة موحدة ضد إسرائيل ، كان عرض خطوطه العامة علينا انا و ابو إياد و هاني الحسن في اذار / مارس من العام نفسه ” و يضيف ابو داوود بعد ذلك قائلا ” كانت ردة فعلي الاولية عند اطلاعي على هذه المعلومات ، ان قلت في نفسي أن وصفي التل لم يتخل في نهاية المطاف عن المثل العليا التي آمن بها في فترة شبابه عندما كان يناضل حاملا سلاحه بين العامين ١٩٤٨ و ١٩٤٩ ” .

ايمان وصفي التل بالمقاومة المسلحة كخيار استراتيجي لتحرير فلسطين اكده المؤرخ الصهيوني آفي شلايم في كتابه ( أسد الأردن – حياة الملك حسين في الحرب و السلام ) اذ يتحدث عن المرحلة التي اعقبت معركة الكرامة قائلا ” حصلت المنظمات الفدائية على دعم المجتمع الاردني بكل مستوياته ، فكان رئيس الوزراء الاردني السابق وصفي التل عضوا في اللجنة الاستشارية الملكية التي انشئت لتقديم المشورة للملك حول الاستراتيجية و السياسة في اعقاب حرب حزيران ، حيث اعتقد التل بأنه لا نية لدى إسرائيل للانسحاب من الاراضي التي احتلتها ، و لا هي ذات اهتمام حقيقي بتسوية سياسية مع العرب ، لان ذلك يترتب عليه الانسحاب ، و لهذا خلص إلى انه ما من بديل للعرب غير اللجوء إلى حرب العصابات طويلة الامد كي تطرد اسرائيل من المناطق المحتلة “

إن من الظلم و الاجحاف بما كان ان تقلب الحقائق رأسا على عقب و يتم تصوير رجال حرصوا على تحرير فلسطين باعتبارهم خونة و عملاء كما حدث مع العلمي اولا ثم التل تاليا و ما محاولة تصوير الشهيد وصفي بأنه مسؤول عن تصفية المقاومة في الاردن عام ١٩٧١ الا ضرب من الكذب العاهر غير المسؤول ، و هذا ما يمكننا التدليل عليه عبر السطور التالية التي اقتبسناها من كتاب ” الحسين حياة على الحافة – تاريخ ملك و مملكة ” للصحفي الفرنسي رولان دالاس اذ كتب قائلا ” قدم زيد الرفاعي خطة عمل من مرحلتين الى الملك ، أولا يجب اخراج كل الفدائيين من عمان و المدن الرئيسية خلال الفترة الممتدة بين كانون ثاني ١٩٧٠ و نيسان ١٩٧١ ثانيا يتم تطويق الباقين في الهضاب بين عجلون و جرش و طردهم من الاردن في شهر تموز / يوليو “

اخيرا و ليس آخرا لقد لعب موسى العلمي دورا محوريا بالغ الاهمية في صياغة تفكير و عقلية الشهيد البطل وصفي التل و هو امر يصر بعض الكتاب من ذوي النزعات القطرية الاقليمية المشبوهة على اغفاله لاسباب تتعلق باجندتهم الصهيونية الراغبة في ابقاء القطر العربي الاردني مسرحا غير مهيء ليكون قاعدة انطلاق رئيسة لتحرير فلسطين العروبة من نهرها الى بحرها ، بيد أن الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى