غزة على مفترق التاريخ: تصاعد التوترات ومخاوف من حرب أهلية وتشكيلات فصائلية جديدة

التاج الإخباري -
التاج الإخباري - بقلم: محمد علي الزعبي
غزة، هذه الجغرافيا الصغيرة المفعمة بالرمزية التاريخية، تقف اليوم على عتبة مرحلة خطرة قد تتجاوز كل ما عرفته من حصار وعدوان، نحو انقسام داخلي أعمق قد يفضي إلى حرب أهلية صامتة أو حتى معلنة. فقد أدّت الحرب الإسرائيلية الأخيرة إلى انهيار واسع في البنية الأمنية والاجتماعية، وزادت من حدة الفراغ السياسي داخل القطاع، ما فتح الباب أمام تحولات ميدانية مفاجئة بدأت تتشكل بهدوء خلف الركام والغضب.
في خضم هذه التحولات، برزت تشكيلات مسلحة جديدة لم تكن موجودة بصيغتها الحالية قبل العدوان، بل تشكلت وتطورت خلاله، بفعل تفكك القبضة الأمنية واشتداد الشعور بالغضب الشعبي. إذ ولدت هذه الفصائل من رحم المأساة اليومية، مدفوعةً بمزيج من الجوع، واليأس، وانعدام الأمل، إلى جانب حالة الاتهام الشعبي لحركة حماس باحتكار بعض المساعدات الإنسانية وبيعها في السوق السوداء بأسعار باهظة، ما عمّق الإحساس بالخذلان لدى قطاعات واسعة من السكان. هذه العوامل مجتمعة أسهمت في تسريع تشكّل الفصائل الجديدة، والتي بدأت كتجمّعات عفوية ثم تطوّرت لاحقًا إلى مجموعات تحمل أسماء وقيادات.
ظهرت على الأرض فصائل وتشكيلات مسلحة يختلط فيها البعد الثأري بالغضب السياسي، وتحمل طابعًا شبابيًا متمردًا على الواقع القائم. من أبرز هذه التشكيلات مجموعات تطلق على نفسها أسماء مثل "كتائب العودة"، و"تيار المقاومين الجدد"، و"مجموعات الغضب الشعبي"، وهي خليط من عناصر ميدانية قاتلت سابقًا ضمن أجنحة فصائل معروفة، أو انشقت عنها، إضافة إلى شبّان غاضبين لم يجدوا لهم مكانًا في المشهد السياسي القائم. بعض هؤلاء القادة الجدد هم وجوه غير معروفة إعلاميًا بعد، مثل "أبو رعد النصراوي"، الذي يقدَّم في الجنوب بوصفه قائدًا ميدانيًا يحظى بتأييد في أوساط المقاتلين السابقين، و"أبو جبر الغزي" الذي يتزعم مجموعة شبابية في شمال غزة وتطالب بإسقاط مبدأ الوصاية الحزبية، إلى جانب "ياسر أبو شباب"، الذي برز كأحد المنسقين الميدانيين البارزين في وسط القطاع، ويُنظر إليه كصوت جديد يدعو لانتفاضة داخلية على القيادات التقليدية. لا تتبع هذه التشكيلات أي مرجعية فصائلية مركزية، بل تنمو من رحم الميدان والغضب الشعبي، ما يجعلها أكثر قابلية للصدام مع القوى التقليدية، وأقل انضباطًا تجاه أية تسويات أو تفاهمات.
الواقع أن هذه التشكيلات بدأت تفرض نفسها على الأرض، وتدخل أحيانًا في اشتباكات محدودة مع أطراف أخرى على خلفيات سياسية أو مناطقية، ما يعزز من احتمال توسع حالة الفوضى إلى صدامات داخلية مفتوحة، خاصة مع غياب مشروع وطني موحّد، وانعدام الأفق السياسي، وشعور جزء كبير من الشارع بأن لا أحد يمثل تطلعاته.
السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تراقب المشهد من بعيد، دون قدرة حقيقية على التدخل أو التأثير في مجريات الأحداث، خاصة في ظل الرفض الشعبي الكبير لعودتها بشكل أمني إلى غزة دون توافق وطني شامل. ومع تضارب الحسابات الإقليمية والدولية بشأن مستقبل القطاع، فإن أي غياب للحلول الوطنية المتفق عليها سيبقي الباب مفتوحًا أمام سيناريوهات الفوضى، وربما تكرار النموذج اللبناني أو الليبي بنسخته الفلسطينية.
ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد ارتدادات لحرب مدمّرة، بل هو بداية تشكل مرحلة جديدة من الصراع الداخلي على الشرعية والتمثيل، في وقت يحتاج فيه الشعب الفلسطيني إلى لملمة الجراح لا توسيعها، وإلى وحدة حقيقية لا مخرجات غرف العمليات. وما لم تتدارك القيادات الفلسطينية بمختلف تياراتها هذا المنعطف، فإن غزة مرشحة للدخول في نفق داخلي مظلم لا يقل خطرًا عن نيران الاحتلال.