نهاية السيادة المطلقة: من الحكم إلى إدارة المصالح

التاج الإخباري -
التاج الإخباري - بقلم: المحامي طارق أبو الراغب
في زمن تتسارع فيه تحولات النظام الدولي وتتآكل فيه المفاهيم الكلاسيكية للدولة، لم تعد السيادة المطلقة إلا أثراً خطابياً من حقبة الحرب الباردة، أو نموذجاً نظرياً لا يصمد أمام الواقع الجيو-اقتصادي المتداخل. لقد أفضت العولمة، وما رافقها من تصاعد في تدفقات رؤوس الأموال، وتكامل سلاسل الإمداد العالمية، وبروز كيانات فوق-وطنية ذات تأثير مباشر على السياسات الداخلية، إلى تقويض بنية الدولة السيادية التقليدية، لصالح نموذج جديد يُعرف بـ”الدولة الوسيطة” أو الدولة المكوّبة للسلطة والسيادة (Compartmentalized Sovereignty).
تفكك السلطة الشمولية وصعود إدارة المصالح
النماذج السلطوية التي كانت تُمارس الحكم وفق نهج مركزي جامد، والتي غذّتها الأيديولوجيات الشمولية القومية أو الاشتراكية أو الدينية، لم تعد قادرة على الاستمرار في بيئة دولية تحكمها ديناميات العرض والطلب، وتُقيّم فيها الحكومات بمدى قدرتها على إدارة المخاطر، وتحقيق النمو، وضمان الاستقرار الجاذب لرأس المال العابر للحدود.
الحكم اليوم لم يعد ممارسة سيادية ذاتية، بل تحوّل إلى نمط من “الحوكمة التفاوضية للمصالح” — وهي صيغة هجينة تتداخل فيها اعتبارات الأمن القومي مع مقتضيات الاقتصاد الكلي، وتتقاطع فيها السياسات العامة مع رغبات الفاعلين غير الدولتيين (شركات، منظمات، صناديق سيادية، وحتى منصات رقمية عابرة للسلطات).
السيادة المقيّدة: من “الاستقلال الوطني” إلى “الارتباط الاستراتيجي”
نعيش اليوم في ظل ما يسميه بعض المنظّرين بـ“السيادة المقيّدة (Constrained Sovereignty)”، وهي حالة تفرضها العولمة ليس فقط عبر المؤسسات الاقتصادية الدولية (كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، بل أيضاً من خلال “التنميط المعياري للسياسات” الذي تمارسه المنظمات الإقليمية، وشركات التصنيف الائتماني، والاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف.
لم يعد بإمكان أي دولة أن تنفرد بوضع سياسات جمركية، أو نقدية، أو حتى بيئية، بمعزل عن الحسابات الدولية. حتى الدول التي ترفع شعار “الانفصال عن النظام العالمي”، تجد نفسها مرتبطة – طوعاً أو كرهاً – بالبنية التحتية للاقتصاد المعولم.
الاقتصاد كأداة سيطرة جديدة
تراجعت الجيوسياسة التقليدية التي كانت ترتكز إلى موازين القوى العسكرية، لتحل محلها “الجيو-اقتصاد” — وهو مصطلح يعكس استخدام أدوات الاقتصاد (العقوبات، اتفاقيات التجارة، تدفقات الاستثمار) كوسائل لتحقيق أهداف استراتيجية. بمعنى آخر، أصبح الحكم فعلاً مركباً من عناصر متعددة: اقتصادية، مالية، تكنولوجية، ديمغرافية.
والمثير للاهتمام أن “رأسمالية المراقبة” — كما تسميها شوشانا زوبوف — باتت أحد أدوات إعادة هندسة القرار السيادي، حيث لم تعد البيانات محصورة بالدول، بل أصبحت تُستثمر من قبل شركات تقنية عملاقة تُمارس تأثيراً سيادياً موازياً للدول، وتعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.
الدولة كمنصّة مصالح متعددة الجنسيات
لم تعد الدولة الحديثة كياناً صلباً يُمارس السيادة على إقليم وسكان، بل تحوّلت إلى “منصة تنظيمية” لإدارة توازنات مصالح متعددة، تشمل:
• مصالح داخلية (اجتماعية، تنموية، إنتاجية).
• مصالح خارجية (شراكات استراتيجية، اتفاقيات تبادل حر، تحالفات أمنية).
• مصالح رأسمالية عابرة للحدود (شركات، صناديق، شركات خدمات لوجستية وبيانات).
وهذا كله يجعل من الحكم مهمة أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، لأنه يتطلب براعة في إعادة توزيع النفوذ دون تفريط في السيادة، وفي الانفتاح دون الوقوع في فخ التبعية.
ما بعد الاكتفاء الذاتي: الأمن الاقتصادي كبديل للانعزال
حتى مفهوم “الاكتفاء الذاتي” بات يُعاد تعريفه. فالدول لم تعد تطمح إلى إنتاج كل ما تحتاجه، بل إلى تحقيق أمن اقتصادي مرن (Resilient Economic Security) يقوم على التنوع في مصادر الاستيراد، وبناء احتياطيات استراتيجية، وامتلاك قدرة تفاوضية تُمكّنها من تحصيل شروط أفضل في السوق العالمية.
بالتالي، السيادة الحديثة ليست في الانغلاق، بل في القدرة على إدارة الهشاشة النسبية بذكاء استراتيجي.
الخلاصة: نحو سيادة ذكية لا مطلقة
الحكم في العصر الرقمي المعولم لم يعد امتيازاً مطلقاً، بل مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع والأسواق، تُمارس عبر “سيادة ذكية” (Smart Sovereignty) توازن بين الاستقلال والاندماج، وبين السيطرة والانفتاح. أما السيادة المطلقة، فهي اليوم مصطلح كلاسيكي لم يعد له مكان في واقع دولي تحكمه المصالح